التفكر في مخلوقات الله عز
وجل
إن من أعظم الدلائل على وجود
الله – عز وجل – هو مخلوقاته التي أبدعها ، ونسجها على أكمل وصف ، وأبدع نظام. فمن
يتأمل في هذا الكون بشموسه وأقماره ، وبحاره وأنهاره ، ونباتاته وأشجاره ، ويتأمل
ما فيه من تنوع المخلوقات ، وتباين الكائنات ، يدرك لا محالة أن من رواء هذا كله
إلها خالقا مدبرا حكيما ، خلق هذا الكون بعلمه وقدرته ، ونظمه بحكمته ومشيئته ،
فكل شيء فيه بحساب ، وكل ذرة فيه بمقدار ، وله قوانين صارمة تحكمه ، وتسيره بدءا
من الذرة إلى المجرة، وأنه يستحيل أن يكون هذا الكون كله أتي من لا شىء كما يزعم
أهل الإلحاد . إن هذا أقرب إلى الجنون ، بل هو الجنون بعينه
إن من بديهيات العقول أن لكل
مسبب سبب ، ولكل حادث محدث ، ولكل موجود موجد ، فهذا حكم العقل في أقل الأشياء
وأحقرها ، فما بالكم بهذا الكون الكبير ، الذي كل شىء فيه يسير بنظام محكم ، وضبط
دقيق0
إن التفكر في هذه المخلوقات
سيقودك حتما إلى اليقين الجازم بوجود الله عز وجل – وسيملأ قلبك بإجلاله وتعظيمه ،
لذلك أمرنا الله عز وجل – بالتفكر الدائم في مخلوقاته ، والبحث الدؤوب في أسرار
صنعته ، وبين أن أصحاب العقول الواعية والألباب الزاكية هم الذين يتفكرون في آياته
، ويتأملون بديع صنعها ، ودقة تكوينها ، فقال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ
الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ
فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) البقرة 164 ، وقال
أيضا : ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ ﴾آل عمران: 190- 191
ولما كان التفكر بهذه
الأهمية فإن الله عز وجل أكثر من الاستدلال به في محاجة المشركين به والمنكرين
ألوهيته ، لكي يردهم إلى الحق ، ويأخذ بأيديهم إلى طريقه المستقيم ، قال تعالى : ﴿
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ
مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ
حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ الأعراف: 185، وقال أيضا ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ
لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ
مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ النَّازعات: 27- 33 ، وقال : (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى
الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى
الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) الغاشية
17-20
وكذلك التفكر في خلق الإنسان
من أكبر الأدلة على وجود الله – عز وجل – وقد أمرنا الله بذلك ، ولفت أنظارنا إليه
فقال (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ ) الذاريات 20-21
لذلك من يتأمل في خلق
الإنسان وكيف يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ، ثم طفلا فشابا فشيخا ، وهو في
كل هذه الأطوار محاط بالعناية والرعاية ، قد هُييء له كلُ أسباب الغذاء التى تحفظ
عليه حياته ، وتستبقى قوته ، كل ذلك مع ضعفه ، وتمام عجزه . ثم يتأمل في أجهزته من
جهاز عصبي ، ودوري ، ومناعي ، وسمعي ، وبصري ، وهضمى ، وغيرها كثير وكلها تعمل في
تناسق مذهل ، وإحكام مدهش يدرك أنه لا يمكن أن يكون هذا كله من عمل العشوائية والصدف
كما يدعي الملحد ، وإنما هو من إبداع خالق حكيم سبحانه وتعالى
لذلك كله كان التفكر عبادة
من أعظم العبادات ، وقربة من أجل القربات ، بل جعلها ابن عباس خيرا من قيام الليل
، فقال : "تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة"([2]) ، وما ذلك إلا لجليل نفعه ، وعظيم أثره
وعلى العموم فكلما زاد
المؤمن تفكرا بمخلوقات الله عز وجل ، كلما زاد يقينا به ، وإدراكا لعظمته وقدرته