في ظلال الآية الكريمة
|
|
محمد سعيد قاسم
@__5556
|
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد :
قال ﷻ [ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا
شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ]
[البقرة: 216]
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد ، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد
يأتي بالمحبوب ، والمحبوب قد يأتي بالمكروه ، لم يأمن أن توافيه المضره من جانب
المسرة ، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب ، فإن
الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد أوجب له ذلك أموراً :
منها : أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليھ في الإبتداء ، لأن عواقبه
كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع . وكذلك لا
شيء أضر عليھ من ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه ، فإن عواقبه كلها آلام
وأحزان وشرور ومصائب ، وخاصية العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة
العظيمة والخير الكثير ، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم
والشر الطويل .
فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها ، والعقل الكيّس دائماً ينظر إلى
الغايات من وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة ، فيرى المناهي كطعام
لذيذ قد خلط فيه سمُّ قاتل ، فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم ،
ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفضٍ إلى العافية والشفاء ، وكلما نهاه كراهة
مذاقه عن تناوله أمره نفعهُ بالتناول .
ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها ، وقوة صبر يوطن به نفسه
على تحمل مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية ، فإذا فقد اليقين والصبر تعذّر عليھ
ذلك ، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليھ كلَّ مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم
واللذة الدائمة .
ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور ،
والرضا بما يختاره له ويقضيه له ، لما يرجو فيه من حسن العاقبه .
ومنها : أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليھ ولا يسأله ما ليس له به علم ، فلعل
مضرَّته وهلاكه فيه وهو لا يعلم ، فلا يختار على ربه شيئاً بل يسأله حسن
الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك .
ومنها : أنه إذا فوّض أمره إلى ربه ورضي بما يختاره له أمدَّه فيما يختاره له
بالقوة عليھ والعزيمة والصبر ، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه
، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه .
ومنها : أنه يريحه من الأفكار المتبعة في أنواع الإختيارات ، ويفرغ قلبه من
التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في آخرى ، ومع هذا فلا خروج
له عما قدر عليھ ، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به
فيه ، وإلا جرى عليھ القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه ، لأنه مع اختياره لنفسه
، ومتى صح تفويضه ورضاه ، اكتنفه في المقدور والعطف عليھ واللطف به فيصير بين
عطفه ولطفه ، فعطفه يقيه مايحذره ، ولطفه يهون عليھ مافدّرهُ .
إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده ، فلا أنفع له من
الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحاً كالميته ، فإن السبع لا يرضى بأكل
الجيف .
والله أجل وأعلم
للإستزادة /
كتاب الفوائد - لابن قيم الجوزية (١٤٦-١٤٧)
|
http://saaid.net/Minute/780.htm