2022/12/31 12:00

لماذا يبقى العراقيون خارج اللعبة دائماَ ؟

لماذا يبقى العراقيون خارج اللعبة دائماَ ؟


العراق هو البقعة الاكثر خطرا في العالم ، هذه العبارة اطلقها رئيس وزراء بريطانيا - مكميلان - في غمرة مفاوضاته مع الجانب السوفيتي السابق برئاسة -خرتشوف- في قضية سميت حينها - ازمة الصواريخ في برلين الغربية -، والتي هددت بلدان حلف وارشو في الصوب الشرقي لقارة اوربا في سنة 1959 ،----

فكانت الورقة التي كان – خرتشوف - يضغط بها على الطرف الغربي هي ورقة العراق ،وقتها كان اليسار في العراق هو من يسيطر على الشارع ،وتهديد خرتشوف الذي كان يشهره بوجه الغرب يتمثل في دعم اليسار العراقي للسيطرة على زمام الحكم في العراق ، واجتياح منابع النفط في منطقة الخليج ،الذي كان يمثل شريان الحياة الاقتصادية لكل العالم الغربي.

كان - خرتشوف - يمارس تهديده هذا لـ- مكميلان - دون ان يأخذ رأي أي عراقي على الاطلاق،--العراق اليوم يكتسب نفس الخطورة في غمرة صراع طرفين دوليين يفضلان ان تكون أرض العراق ميدانا لصراعهم دون الاخذ برايه ----

ظل العراق طيلة أربعة قرون امتدت ما بين 1532-1918ميدانا حروب ونزاعات دامية وسجالية بين دولتين كبيرتين مجاورتين له ،الدولة العثمانية ومركزها الاستانة، والدولة الفارسية في ايران ، وكان العراقيون لا حول لهم ولا قوة ، فكانت حصيلتهم خراب البلاد ، وانتزاع ابنائهم بالقوة وزجهم في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، يذهبون بلا عودة --- واستمر الوضع هكذا على مر هذه القرون والاعوام ، حتى إندلاع الحرب الكونية الاولى عام 1914 فكان العراق يحتل الاهمية الاولى في ستراتيجيا تحالف بريطانيا وفرنسا ،وهنا تبدل اللاعبون ،فكان الفر والكر بين الجيوش العثمانية من جهة ،والفرق العسكرية الانكليزية والهندية من الطرف الاخر ، اما العراقيون فكانوا يجلسون خارج خط الصراع متفرجين .

وكانت المانيا التي تحالفت مع الدولة العثمانية انذاك ادركت بحاسة قوية الموقع الجيوسياسي المهم الذي يتمتع به العراق مع موارد طبيعية هائلة اولها النفط الذي كان حينها سلعة صاعدة في عالم الصناعة المتنامي ، والمانيا انذاك كانت تحتل مكانة اوربية متقدمة ومتنافسة في هذا المجال ،وسوق العراق وموارده يستحق المغامرة من قبلها كونها المحرومة من المستعمرات مقارنة مع دول اوربية صغيرة ، فكان مخططها الاول هو انشاء سكة بغداد -برلين ،بعد استحصال الموافقة من حليتفها الدولة العثمانية ،ولكن بريطانيا ادركت على الفور خطورة هذا المشروع ، فاحبطته بهجومها الاول على البصرة في عام 1914،لذلك كان المستشارون االالمان يمدون الجيش التركي بالاستشارة طيلة التصدي للهجومات البريطانية ، التي انتهت بسيطرة بريطانيا على العراق في1917،فكانت الاسبقية لها في الفوز بالعراق وفرض الكماشة على الدولة العثمانية في حدودها الجنوبية-----

ولم تنقطع مساعي المانيا واطماعها في العراق فقد سعت حثيثا في سنوات مابين الحربين الاولى والثانية في تعزيز مواقعها عبر نشاط سفيرها في بغداد غروبا ، ذو الشخصية الاستثنائية الذي تشعبت علاقته وتعمقت في الاوساط السياسية والعسكرية ،فكان لالمانيا اصابع ومشاركة في الانقلاب الذي حدث في عام 1941،وفي هذه المرة كانت المانيا تتطلع الى نصب كماشة عبر العراق للجيوش الانكليزية المطوقة من الجيش الالماني بقيادة الجنرال - رومل - الذي ابتلع شمال افريقا وبات يتقدم باتجاه مصر ،الا ان المساعي الالمانية فشلت كما المرة الاولى وتم الاطباق التام على العراق من قبل بريطانيا حتى ثورة العراق في 1958.

لم يستقر الوضع السياسي في العراق طيلة العهود الجمهورية باستثاء سنوات قليلة جدا ،فكان هدوءا نسبيا يشبه السكون الذي يسبق العاصفة ،فكانت سنوات العقد الستيني قد تميزت بانقلابات عديدة يخطط لها من قبل ارادات خارجية ، وحروب دموية في منتصف السبعينات، ثم حرب ضروس طويلة مع ايران لثمان سنوات بعدها بسنتين اجتياح للكويت ثم حصار طويل امتد حتى الاحتلال في 2003.

كان العراق محاطاَ باهتمام بالغ من قبل مراكز القرار الامريكي في السنوات الاخيرة من ثمانينات القرن الماضي ، وحصرا في عام1989 ،فاختيرالعراق كعينة لتطبيق النظام العالمي الجديد ،الذي تفردت بتعينه وتسويقه امريكا باعتبارها الطرف الاساسي في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق ،فبعد تفكك الاخير اصبح من الضروي تدشين مفاهيم النظام الجديد عالميا ،وكان العراق يتمتع بكل المواصفات المطلوبة ، فتمت دراسة الموضوع بكل عناية من قبل ستراتيجي البنتاغون ، ممن يسمون باليمين الامريكي الجديد في ذروة انتصار كبير على ايديولوجية المنظومة الاشتركية ،فكانوا تحت خيلاء فوز منحهم دافع قوي في ابتكار مفاهيم كونية جديدة ،كالشرق الاوسط الكبير ، والفوضى الخلاقة ،والديمقراطية الامريكية،كل هذا في اجواء قطب دولي وحيد هو امريكا، ما فتح شهية امريكا في اختيار العراق كونه بلدا ثريا بنفطه،يحتل جغرافية بالغة الاهمية،خرج توا من حرب طويلة ،يبدو منهكا ،ويرزح من مشاكل اقتصادية هي من تداعيات الحرب،وشعبه على مستوى من الثقافة تتقبل الديمقراطية،على رأسه دكتاتور متهور لا يفتأ يقدم المبررات لاحتلال بلده ،كما انه لا يتورع عن الهجوم على اي بلد يجاوره،ليكون هذا مسوغا لتحشيد العالم ضده، ناهيك عن شكوك في حيازة اسلحة دمار شامل.

كانت الماكنة الاستراتيجية الامريكية قد سوغت وروجت موضوعة تحرير العراق ،تاطرت لاحقا في قانون صدر من الكونكرس سنة 1998 ،ثم ابتدات قصة تحرير العراق لتنفذ في2003 ،الخطوة الاولى لادارة العراق هو اختيار حاكم مدني امريكي وتبدل مفهوم التحرير الى احتلال وفقا لطلب من الامم المتحدة ليتحمل الجانب الامريكي المحتل مسؤولياته بعد حين ،تمثلت في تعين حاكم مدني ، وشرع - برايمر - بتشكيل مجلس الحكم بصيغة المحاصصة للمكونات العراقية،ثم تتالت الخطوات لاحقا في كتابة الدستور ثم انتخابات نيابية ..الخ.

ومع ذلك ظلت حالة عدم الاستقرار تتفاقم سنة بعد سنة ، بظهور مقاومة للاحتلال ،وحرب اهلية ،وبروز بؤر إرهابية ابتدأت بالقاعدة التي تمددت في مناطق عديدة من العراق بدعم وتمويل خارجي مدعية ان لها برنامجا لمقاومة الاحتلال ،وفي سنة 2011انسحبت القوات الامريكية من العراق باتفاق مع الحكومة العراقية المزعزعة، فحصل فراغ سياسي أمني ، استطاعت ايران مستفيدة من الاوضاع الجديدة في العراق ان تحقق حضورا لها مدعوما من قبل احزاب موالية لها تربطها علاقات قديمة معها،فكان تاثيرها واضحا وصريحا في حراك العملية في العراق، عززهذا لاحقا ودعم وجودها تداعيات الحرب مع داعش التي احتلت اراض تعادل مساحة ثلث العراق سنة 2014 ، في نفس الوقت دعيت امريكا للمشاركة في هذه الحرب ضد داعش وفق اتفاقية أمنية ،فأصبح هناك وجودان اجنبيان على ارض العراق ،الاول ايراني متماهيا بتشكيلات أمنية موالية لايران ،وجيش أمريكي موثق باتفاقية أمنية ------

الاحداث الاخيرة في تبادل الضربات بين الطرفين ،جعلت من العراق ميدانا لحرب بين ايران وأمريكا لا شان له بها ، فهو خارج معادلة الصراع الايراني الامريكي منذ البداية .

ما يثير الاستغراب وحتى الدهشة ان الورقة العراقية ما زالت حاضرة بقوة في مفاوضات (( فينا )) بين ايران والولايات المتحدة حول الملف النووي الايراني ، جعلت من العراق ميداناَ للمناورة فيما بينهما ، فالعراقيون خارج اللعبة ، وهو ما يشبه الوضع الذي حفز - خروتشوف - رئيس الاتحاد السوفيتي السابق اشهار الورقة العراقية بوجه مكميلان في عام 1959 دون علم العراقيين .

* نقلا عن "المدى"