2022/12/31 11:08

حين تكون الإنسانية بحاجة إلى ضمائر حية.. ذكريات "درب الريح" والذاكرة كملجأ أخير

حين تكون الإنسانية بحاجة إلى ضمائر حية.. ذكريات "درب الريح" والذاكرة كملجأ أخير

كانت العزلة التي فرضتها الإجراءات الوقائية عقب تفشي جائحة كورونا سببا لانزياح الذكريات من ذاكرة الكاتب سيف الأتاسي؛ حيث "تفتح فكرة العزلة والحظر مجالا للمزيد من الخيال ولو أنه مبهم وغير واضح".

في زمن كثرت فيه الأعمال الأدبية التي تستلهم مادة سردها من الخيال، يقدم الدكتور والكاتب السوري سيف الدين الأتاسي عملا أدبيا أشبه بالسيرة الذاتية يستعيد من خلاله ذكريات وصورا واقعية عايشها عبر 5 عقود من الزمن بلغة بيضاء خالية من التكلف وأسلوب رشيق يحفز القارئ على المضي قدما بـ"درب الريح".

ويأتي كتاب "درب الريح" -الممتد إلى 150 صفحة من القطع المتوسط والصادر حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر- الثاني في الترتيب بعد كتاب "شخابيط على الجدران" الذي أصدره سيف الدين الأتاسي هذا العام (2021).

و"درب الريح" خليط من الذكريات التوثيقية لأحداث وشخصيات مهمة ومؤثرة في تاريخ العرب المعاصر، والذكريات الذاتية المعاشة لكاتبها في 5 مدن عربية وأوروبية، ما يجعله كتابا غنيا ومتنوعا في موضوعاته ومقاصده ما بين التأريخ والأرشفة وما بين السرد الذاتي عن التجربة الشخصية.

حصار العراق.. حين تكون الإنسانية بحاجة إلى ضمائر حية

يستهل الكاتب مذكراته التوثيقية بمشاهدات أليمة للعوائل العراقية في بغداد حيث الفقر والاحتياج مطلع تسعينيات القرن الماضي إثر إصدار مجلس الأمن القرار رقم 661 الذي تضمن عقوبات اقتصادية شاملة على العراق.

ويرى سيف الدين أن القرار كان انتهاكا صارخا لميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ حيث أدى إلى نقص حاد في الغذاء والدواء والخدمات الأساسية للشعب العراقي، فضلا عن تمهيده الطريق لقرار مجلس الأمن رقم 986 الذي نص على برنامج مذكرة التفاهم؛ النفط مقابل الغذاء.

ويعتقد الكاتب أن مذكرة التفاهم تلك كانت "بمثابة فخ نصبه البريطانيون والأميركيون ووقعت فيه القيادة العراقية السابقة"؛ حيث جعلت تلك المذكرة الأمم المتحدة تنظر إلى العراق بوصفه "مخيما للاجئين لا أكثر ولا أقل".

وفي ظل الحظر الجوي المفروض على العراق تقرر مجموعة -يسميها سيف الدين في الكتاب بمجموعة "الأمل" وهو واحد من أعضائها- إطلاق أول رحلة جوية مدنية من مطار شارل ديغول في باريس إلى مطار صدام حسين في بغداد بهدف "كسر الحظر ورفع الروح المعنوية لشعب أنهكه الحصار".

وكان للمجموعة ما أرادت، حيث تمكنت منظمة "فاونديشن ماي" (Foundation may) الفرنسية من تنظيم هذه الرحلة الجوية على متن طائرة حطت بمطار بغداد في 22 سبتمبر/أيلول 2000، وضمت وفدا من الأطباء والفنانين والرياضيين الفرنسيين على رأسهم رئيس المنظمة المهندس الفرنسي اللبناني جهاد الفغالي والدكتور سيف الدين الأتاسي.

وعن شعوره في تلك اللحظات والهدف من الرحلة يقول سيف الدين الأتاسي للجزيرة نت "لاشك في أني شعرت يوم الرحلة بالفخر لأنني كنت في طاقم المنظمين وكان الأطباء المرافقين عاينوا العديد من المرضى واختاروا العديد من الحالات للعلاج في فرنسا، ولم يكن للرحلة أية أهداف غير العمل الإنساني وفتح المجال لهدم الحصار الجوي المفروض على الشعب العراقي".

واستطاع الوفد الفرنسي -بعد معاينة المرضى وزيارة وزارة الصحة وتسليط الضوء على شح التجهيزات الطبية في المشافي وغيرها من الفعاليات- أن يشارك في مهرجان بابل وأن يقدم أعضاؤه أداء فنيا راقصا كنوع من التضامن مع الشعب العراقي وسط تصفيق حار على منصة المسرح الأثري في مدينة بابل.

شخصية من زمن مضى

نبقى في بغداد؛ حيث يلتقي الكاتب بالقيادي في منظمة التحرير الفلسطينية محمد العباس "أبو العباس أو أبو خالد"؛ ذلك الرجل "النبيل الذي اقتحم الحلبة السياسية والعسكرية الفلسطينية اقتحام الإعصار".

وعن أبي العباس وكواليس لقائهما في بغداد، يقول سيف الدين للجزيرة نت "جمعتنا الأقدار في ليل بغداد تحت الحصار، حيث العدد المحدود من الأصدقاء الذي يقضون لياليهم سوية، وأردت في الكتاب أن أسلط الضوء على أبي العباس لأني اكتشفت الجانب الإنساني المضيء من حياته النضالية من حبه للقراء والاستماع للموسيقى وتربية الأولاد، تلك التفاصيل الإنسانية التي تساعد القادة في التغلب على الصعاب".

ويصفه في درب الريح مدونا "كان كريما وشهما وشجاعا ورجل موقف ومحبا للناس. وكانت قصصه وشريط حياته يستعرض أمام ناظري كشريط سينمائي مزدحم بالأحداث المشوقة، فعشق غسان كنفاني، وربعي المدهون، وإميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا، والحب والفلسفة والوطن في أشعار محمود درويش (..) كما عشق رسومات حنظلة".

ويستذكر الأتاسي أبرز عمليات أبو العباس وهي اختطاف السفينة الإيطالية "آكيلي لاورو" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 1985 والتي كانت متوجهة إلى ميناء أشدود الإسرائيلي، وكان هدف العملية الإفراج عن أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، حيث أمر أبو العباس بتنفيذها ولكن بعض الأخطاء التي ارتكبها الرجال الذين نفذوا العملية أدت إلى مواجهة بينهم وبين الجهاز الأمني للسفينة؛ ما أدى بدوره إلى مقتل الراكب الأميركي المسن "ليون كليفهوفر" وهو الأمر الذي "لم تغفره الولايات المتحدة الأميركية"، حيث تم اعتقال أبي العباس بعد وشاية عنه في بغداد عقب الغزو الأميركي للعراق.

فيكتب الأتاسي "لا شك في أن السجن أشد ألما من الموت على الأرواح الطليقة، فحين يسجن الأحرار تتصاعد أرواحهم إلى السماء كنوع من الاحتجاج ورفضا للقيد والاحتجاز". لقد توفي أبو العباس في إحدى السجون الأميركية في العراق بظروف غامضة في الثامن من مارس/آذار 2004.

حمص والحب ورحيل الأصدقاء في زمن كورونا

لقد كانت العزلة التي فرضتها الإجراءات الوقائية عقب تفشي جائحة كورونا سببا لانزياح الذكريات من ذاكرة الكاتب، حيث " تفتح فكرة العزلة والحظر مجالا للمزيد من الخيال ولو أنه مبهم وغير واضح".

فاستدعى ذكريات مدينته حمص التي يحدثنا عنها بالقول "غادرت حمص منذ 10 سنوات ولم تغادرني أبدا، فهناك أهلي ووالدتي وتاريخ وحب، لكننا عشنا في ظل نظام سياسي أشبه بالعصابة لا مجال عنده لأي مناقشة، وحين يرتفع أي صوت فإنه سرعان ما يختفي لأنه نظام لا يحتمل إلا صوتا واحدا".

ويضيف الكاتب "لكن حمص العاصي والميماس وديك الجن ومدينة الحجارة السوداء والقلوب البيضاء ستبقى، وستبقى ساعة "كرجية حداد" في ساحتها أمام دار الحكومة بمركز المدينة رمز الكرامة والعزة حتى نستعيد القرار، وفضيلتي الحرية والفرح".

وسرعان ما يعود جهاد الفغالي -المهندس ورئيس المنظمة التي سافر وفدها إلى بغداد- مجددا إلى واجهة السرد، ولكن هذه المرة بمرثية يضيء فيها الكاتب الوجه الإنساني لصديقه الراحل بالوباء وفي زمنه، يكتب "يا جهاد وحيدا أسير بما بقي في حديقتي من زهر الصمت، سوف أفتقدك، ولن أنسى ما غرسته بداخلي من حرية وجمال وتسامح بلا حقد أو قطرة دم".

وعن قيمة الصداقة في أزمنة كالتي نعيشها يقول الأتاسي للجزيرة نت "الصداقة جوهر القيم الإنسانية والتي تسمو بها الحياة، فالصداقة شيء ثمين ومهم وجميل".

وما بين الحب وباريس ونقد المعارضة السورية بطريقة كوميدية والكتابة الوجدانية تتبدل موضوعات "درب الريح" وتتنوع أساليب مروياته، ليتمكن القارئ من رؤية الكاتب في كل حالاته ساخطا وحزينا وعاشقا ومغتربا وناقدا، ومشتاقا لبلاد أشقتها الأزمات والحروب.

المصدر الجزيرة