ماذا تعني المعاصرة ؟
إن المعاصرة تعني أن يعيش الإنسان في عصره وزمانه ، ومع أهله الأحياء ، يفكر كما
يفكرون ، ويعمل كما يعملون ، يعايش الأحياء لا الأموات ، والحاضر لا الماضي .
ويقتضي ذلك ما يلي :
1. ضرورة معرفة العصر :
أي أن نعرف " العصر " الذي نعيش فيه معرفة دقيقة وصادقة ، فإن الجهل
بالعصر يؤدي إلى عواقب وخيمة ، وهذا ما دفع أحد المفكرين إلى القول : إن المشكلة
ليست في جهلنا بالإسلام ، بل المشكلة في جهلنا بالعصر ! والجهل بالعصر سمة
مشتركة بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة . إن من بين دعاة الأصالة من يعيش في
الماضي وحده ، ويسكن في صومعة التراث ، وقد أغلق عليه بابها ، فلا يكاد يرى أو
يسمع أو يحسُ شيئاً مما حوله . ويا ليته يعيش في عصور التألق والازدهار ، بل
كثيراً ما يعيش في عصور التخلف والتراجع . فهو يفكر بعقولهم ، ويتحدث بلغتهم ،
ويحيا في مشكلاتهم ، ويجيب عن أسئلتهم ، فهو حي يعايش الأموات ، أكثر مما يعايش
الأحياء .
إن مما ابتليت به الثقافة العربية نفراً من الآبائيين الذين يفرون من مواجهة
الواقع إلى أحضان آبائهم وأجدادهم : (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على
آثارهم مهتدون )) . وإذا سألتهم عن حل لمشكلة معاصرة استنجدوا بآبائهم لكي
يحلوها . حتى قال فيهم جمال الدين الأفغاني : لقد أضحوا على حالة كلما قلت لهم كونوا
بني آدم قالوا كان آباؤنا كذا وكذا .
المطلوب ـ إذن ـ أن يعيش الإنسان القوي في حاضره ، منطلقاً إلى مستقبله ، ولكي
يحسن العيْشة في حاضره وزمانه (عصره) ينبغي أن يعرفه حتى يتعامل معه على بصيرة .
وكلمة اللسان الواردة في الآية : (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين
لهم )) ، يفهم منها اللغة ويفهم منها طبيعة العصر .
معرفة الواقع من تمام معرفة العصر : الواقع المحلي ( الوطني ) ، والإقليمي (
العربي ) ، والإسلامي ، والعالمي .
وهذه المعرفة لازمة لكل من يريد تقويم هذا الواقع ، أو إصدار حكم له أوعليه ، أو
محاولة تغييره .
ولا تتم معرفة الواقع على ما هو عليه حقيقة إلا بمعرفة العناصر الفاعلة فيه ،
والموجهة له والمؤثرة في تكوينه وتلوينه ، سواء أكانت عناصر مادية أم معنوية ،
بشرية أم غير بشرية ومنها عناصر جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية
وفكرية وروحية .
وتفسير الواقع كتفسير التاريخ ، يتأثر باتجاه المفسر وانتمائه العقدي والفكري .
ويجب أن نحذر من النظرات الجزئية ، والمحلية ، والآنية ، والسطحية ، والتلفيقية
والتسويغية .
فعلينا أن نحذر من الاتجاه " الإطرائي " للواقع ، ومحاولة تحسينه
وإبراز صورته سالمة من كل عيب ، منزهة عن كل نقص ، وغضّ الطرف عن العيوب الكامنة
فيه ، وإن كانت تنخر في كيانه ، واتهام كل من ينقد هذه العيوب والآفات بأنه مشوش
، أو مبالغ أو متطرف .
ونحذر كذلك من الاتجاه " التشاؤمي " الذي ينظر إلى الواقع بمنظار أسود
، يجرده من كل حسنة ، ويلحق به كل نقيصة ، ولا يرى فيه إلا ظلمات متراكمة ،
موروثة من عهود التخلف ، أو وافدة مع عهد الاستعمار . جماهير مُضلَّلة ، وأقطار
هي مجموعة " أصفار " !! وما يرجى من تغيير ، أو يؤمل من إصلاح ، فهو
سراب يحسبه الظمآن ماء .
ومثل ذلك : الاتجاه " التآمري " الذي يرى وراء كل حدث ـ وإن صغر ـ
أيادي أجنبية ، وقوى خفية ، تحركه من وراء ستار . ونحن لا ننكر التآمر والكيد
ولكن تضخيم ذلك بحيث يجعلنا " أحجاراً على رقعة الشطرنج " يفتُ في
عضدنا ، وييئسنا من أي توجه إيجابي لإرادة التغيير ، ويريحنا بأن نشعر أننا أبدا
ضحايا من هو أقوى منا ، ولا حلَ أمامنا غير الاستسلام للواقع المر . ومن ناحية
أخرى يجعلنا هذا لا نعود على أنفسنا باللائمة ولا نحاول إصلاح ما فسد ، وتدارك
ما وقع .
إن أوْلى من تعليق أخطائنا على مشجب التآمر الخارجي ، أن نردَها إلى الخلل
الداخلي ، أي الخلل في أنفسنا قبل كل شيء : (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم )) .
وقريب من ذلك الاتجاه " التنصلي " في تفسير الواقع ، بمعنى أن أحداً
لا يريد أن يتحمل مسؤولية ما في هذا الواقع من سوء وانحراف ، فكل واحد ، وكل
فريق ، يريد أن يحمل وزره على غيره ، أما هو فلا ذنب له ، ولا تبعة عليه .
الكل يشكو من الفساد ، ولكن من المسؤول عن فساد الحال ؟ وأين الخلل ؟ جمهور كبير
من الناس يحملون المسؤولية على العلماء ، والعلماء يحملون المسؤولية على الحكام
، والحكام يحملونها على الضغوط الخارجية أو الضرورات الداخلية .
والحق أن الجميع مسؤولون ، كل حسب ماله من طاقة وسلطة : الجماهير والعلماء ،
والمفكرون والمربون والحكام : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) . ( متفق
عليه من حديث ابن عمر . صحيح الجامع الصغير برقم 4569) .
ومن التفسيرات الخاطئة للواقع : التفسير التسويغي التبريري الذي يحاول أن يضفي
على الواقع ، ما يجعله مقبولاً ومشروعاً ، وإن حاد عن الحق وسواء السبيل ، وفي
هذا لون من التدليس والتلبيس ، بإظهار الواقع على غير حقيقته ، وإلباسه زيا غير
زيه .
إننا نريد معرفة واقع عصرنا وعالمنا عموما ، وواقع أمتنا خصوصاً كما هو ، دون
تحريف ولا تزييف ، ولا تهويل ولا تهوين ، ولا مدح ولا ذم ، مستخدمين الأساليب
العلمية الموضوعية في الكشف والرصد والتحليل ، وفي هذا ما يساعدنا على تشخيص
الداء ووصف الدواء .
إن أعداءنا يعرفوننا تماماً ، فنحن مكشوفون لهم حتى النخاع ، فهل عرفنا نحن
أعداءنا ؟ وإذا كنا لم نعرف أنفسنا كما عرفها غيرنا ، فكيف نعرفهم ؟ بل هل عرفنا
أنفسنا مثلما عرفها خصومنا ؟
عصرنا بين الإيجابيات والسلبيات
إنه عصر الإيجابيات :
عصر العلم والتكنولوجيا .
عصر الحرية وحقوق الإنسان واستقلال الشعوب .
عصر السرعة والقوة والتغيرات السريعة ، والتطورات الهائلة .
عصر الاتحاد والتكتلات الكبيرة .
عصر التخطيط والتنظيم لا الارتجالية والفوضى والتواكل .
عصر اقتحام المستقبل ، وعدم الاكتفاء بالحاضر ، فضلاً عن الانكفاء على الماضي .
وهو أيضاً عصر السلبيات :
عصر غلبة المادية والنفعية .
عصر تدليل الإنسان بإشباع شهواته .
عصر التلوث بكل مظاهره .
عصر الوسائل والآلات ، لا المقاصد والغايات .
عصر القلق والأمراض النفسية ، والتمزقات الاجتماعية .
والناس قسمان حيال العصر : منهم من يهرب منه إلى الماضي خوفاً منه بدل المواجهة
، ومنهم من يندمج فيه إلى حد الذوبان ، والخير في الوسط حين نستعمل إرادتنا
واختيارنا أمام هذه المؤثرات لنأخذ ما ينفعنا وندع ما يضرنا .
ويجب أن ننتبه الى نقطة أن العصر ليس الغرب وحده وإن كان هو المهيمن والمسيطر ،
فهناك العالم الإسلامي ، وعالم الشرق الأقصى بدياناته وفلسفاته .
ويردد كثير من تجار الثقافة دعوة مشبوهة هي استيراد الثقافة الغربية بكل عناصرها
بدعويين : عالمية هذه الثقافة ، وأنها ثقافة لا تتجزأ .
أما عالمية الثقافة فهي شبهة خاطئة لأنهم يخلطون بين العلم والثقافة ، فالعلم
كوني ، والثقافة خاصة بكل قوم وكل جماعة . العلم واحد والثقافات متنوعة متعددة .
أما دعوى أن الثقافة لا تتجزأ فهي مرفوضة تاريخياً وواقعياً . لقد أخذ العرب عن
الأمم كثيراً مما عندها من العلوم والمعارف ، ولكنهم لم يأخذوا ثقافتها ، وبقوا
محافظين على لغتهم وعقيدتهم وعاداتهم وأعرافهم . أما في العصر الحديث فقد أخذ
اليابانيون عن الغربيين العلم والمناهج ، ولم يأخذوا عنهم عقائدهم وشعائرهم
وتقاليدهم .
2-العلم والتكنولوجيا :
إن أصالتنا لا تمنعنا من أخذ هذا العلم والاقتباس منه والانتفاع به ، بل هي توجب
علينا ذلك إيجاباً . إن التكنولوجيا لا تشترى شراء ، فتلك التي تشترى لا تطور
المجتمع ، فهي تساعد على الاستهلاك لا الإنتاج ، والتقليد لا الاتباع . إن
التكنولوجيا يجب أن تنبت عندنا ، وأن تتفاعل مع واقعنا ، وأن نحملها نحن . ولا
يظنَنَ ظان أن ما نملكه اليوم من أجهزة ومعدات يجعلنا عصريين .
3 - النظرة المستقبلية :
إن من طبيعة المعاصرة ألا نستسلم للحاضر بل نتطلع دائماً إلى المستقبل . إن
النظرة إلى المستقبل لا تقوم على الكهانة والتنجيم ، ولكن على الإحصاء والتخطيط
، والدراسة والرصد وبناء النتائج على المقدمات . يجب أن نفيد من دراسات المستقبل
التي ازدهرت في الفترة الأخيرة ازدهاراً كبيراً .
والناس بين الماضي والمستقبل على ثلاثة أنواع : أ. الماضويون : المشدودون دائماً إلى
الوراء لا ينظرون أمامهم أبداً . ومن سماتهم أنهم يضفون لوناً من القداسة على
التراث فهو برأيهم حق كله لا يمكن أن نترك شيئاً فيه . ويسرفون في ردّ كل جديد
إلى قديم من التراث ، وإن لم يقم على ذلك برهان : فالطب الحديث مأخوذ من الرازي
وابن سينا ، وعلم الاجتماع المعاصر يوجد عند ابن خلدون ، واللسانيات المعاصرة
عند سيبويه ... وهلم جرَا . وهم يعتبرون كل زمن شراً مما قبله ، ومتعلقون
بالصورة والشكل لا بالروح والجوهر .
ب. المغرقون في المستقبلية : ينظرون دائماً إلى الأمام ولا يلتفتون
إلى الوراء لأن الإنسان يتطور دائماً إلى ما هو أحسن وأمثل ، إنهم كما وصفهم أحد
المفكرين : " كأنما يريدون أن يلغوا الماضي من الزمن ، و (أمس) من اللغة ،
والفعل الماضي من الكلام ، ويحذفوا الوراء من الجهة ، والذاكرة من الإنسان"
. التراث عندهم متهم ، والماضي بغيض ، والسلف متخلفون ، وتاريخ الأمة ظلمات
بعضها فوق بعض . يسكتون عن حسنات التراث ، ويضخمون ما فيه من فتن وانحرافات .
ج - دعاة الوسطية : هم الذين سلموا من
إفراط الأولين وتفريط الآخرين ، يعلمون أن التطور والتغير ليس دائماً إلى الأحسن
والأمثل . يرحبون بالتطور إذا كان ارتقاء إلى ما هو أفضل ، وينكرونه إذا اتجه
نحو الهبوط والانحدار . إنه تيار الوسطية الذي لا يغفل المستقبل ولا ينسى الماضي
.
4. العناية بحقوق الإنسان :
يصور كثير من الباحثين أن حقوق الإنسان نبت غربي لم يكن قبلا في الأمم السابقة ،
والحقيقة أن هذه نظرة مبتسرة قاصرة .
إن الأمة العربية قد عرفت حقوق الإنسان عن طريق ما بثه الإسلام ، بمصدريه القرآن
والسنة ، من قيم ومبادئ تعترف للبشر بحقوقهم كاملة غير منقوصة ، حتى إنها اعترفت
بحقوق الحيوان . لقد شمل الإسلام حقوق الإنسان الشخصية الذاتية والفكرية
والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية ، وأكد المساواة والحريات العامة
المتنوعة .
وقد شمل الإسلام حقوق البشر بأنواعهم : الرجال والنساء والأطفال .
وشمل المسلمين وغير المسلمين في داخل الدولة الإسلامية وخارجها .
وضمن الإسلام واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني إحقاق الحق ومقاومة
البغي ، وجعله فرضاً على الفرد والجماعة والدولة .
وقد شرع الإسلام الجهاد لحماية حقوق الإنسان ، ومنع استضعافه ، والبغي على ذاته
وحقوقه : (( ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء
والولدان )) .
وقبل أن أختم بحثي أريد أن أؤكد بعض النتائج الضرورية
في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها أمتنا : 1. ضرورة تواصل الحوار بين المخلصين من
الطرفين : الأصالة والمعاصرة ، لتصحيح المفاهيم ، وإزالة الشبهات ، وتقريب
الشقَة ، ومحاولة توسيع مساحة المتفق عليه ، وتأكيد التعاون فيه ، والمناقشة
الجادّة في المختلف فيه ، والعمل على تضييقه ، والاجتهاد في الوصول إلى الصواب
أو الصحيح أو الأصح ، وأن نعمل بالقاعدة الذَهبية:(نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر
بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ). 2. تأكيد كرامة الإنسان : لقد وجه كثير من
مفكري الغرب النقد العنيف إلى الحضارة الغربية التي أعلت من شأن المادة وهبطت
بقيمة الإنسان ، فعلينا أن نؤكد ذلك ونتبناه ، ونجعل من ثقافتنا الإنسانية
واقعاً حياً في أرضنا ومجتمعاتنا ، ونمكن لها في حياتنا العقلية والوجدانية ،
حتى تؤدي دورها المطلوب في البناء والإعلاء . 3. لا تناقض في ثقافتنا بين العروبة
والإسلام ، إلا إذا حرفت العروبة فكانت معادية للإسلام ، وحرف الإسلام فكان
معادياً للعروبة . 4. لا صراع في ثقافتنا بين العلم والدين ،
أو بين العلم والإيمان أو بين العقل والنقل . العقل أساس النقل ، والنقل يُشيد
بالعقل ويحتكم إليه ، ولا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول . لذا يجب أن
نعلي من شأن العلم والإيمان حتى تدخل الأمة العصر بجناحين راسخين . 5. لا تعارض بين الأصالة الحقة والمعاصرة
الحقة ، إذا فهمت كل واحدة منهما على حقيقتها . إذ نستطيع أن نكون معاصرين إلى
أعلى مستويات المعاصرة ، وأن نبقى كذلك أصلاء حتى النخاع . إنما تتعارض الأصالة
والمعاصرة ، إذا فهمت الأصالة على أنها الاحتباس الاختياري في سجن الماضي ،
والمعاصرة على أنها الدوران في رحى الغرب . لذا يجب أن نرفض اتجاهين متطرفين :
الاتجاه الأول الذي ينتهي بالأصالة إلى الجمود والتحجر ، والاتجاه الثاني الذي ينحو
بالمعاصرة نحو الفناء في الغرب ، واتّباع سننه " شبراً بشبر ، وذراعاً
بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه " ، ولا يكتفي بأخذ العلم والتكنولوجيا
وحسن الإدارة والتنظيم فيه ، واقتباس كل ما تنهض به الحياة ، بل هو يصرُ على نقل
الأنموذج الغربي إلينا بكل عناصره ومقوماته ، ولاسيما جذوره الفلسفية ، ومفاهيمه
الفكرية ، ومجالاته الأدبية ، وتقاليده الاجتماعية ، وقوانينه التشريعية ،
ومؤثراته الثقافية .