2022/12/31 10:41

في فلسفة تحقير العرب

في فلسفة تحقير العرب

في أذهان الأوروپيّين الغربيّين صورة نمطية للعرب، هي في الواقع صورة سيّئة ودليل جهل عميق بتاريخ العرب وحضاراتهم، تماماً كما هي دليل جهل عميق بحاضر العرب وأنماط حياتهم الحقيقية. وعدا أنّنا كشعوب نتشارك ضفاف ذات البحر الصغير البادي كبحيرة بين بلداننا، تبقى الصورة في الذهن الأوروپي عموماً أنّ العرب يسكنون بلاداً بعيدةً جداً ربّما أبعد من أميركا وخلف الهند.

هذه الصورة ليست وليدة اللّحظة، ولم تبنها المرحلة الاستعمارية، إنّما هي وليدة قرون من تراكم كراهية العرب، وكانت حكومات المرحلة الاستعمارية قد استخدمت هذه الصورة النمطية الموجودة سلفاً لتبرير احتلال الشعوب العربية (المتخلّفة) وتقسيم بلادها والتحكّم بمصائر دولها. ثمّ نقلتها هي ذاتها على قباحتها إلى العرب أنفسهم، وبواسطة مناهج تعليميّة عربيّة وضعتها الأنظمة الاستعماريّة نفسها، مع إعلام عربي تابع مكرار لإعلام دول غرب أوروپا.

والحقيقة أنّ بعض الشعوب الأوروپية قديماً تعلّمت كراهية العرب حتّى قبل أن تدري بوجود شعب يسمّى بالعرب. إذ وصلتها منهجيّة كراهيّة العرب بين أغلفة الكتب الكاثوليكية ولفائفها قبل أن تحتك بأي منتوج حضاري عربي وقبل التماس مع العرب. ميراث هذه الكراهية موروث إلى اليوم في الحكايات والأمثال الشعبية، حتّى صار من بنية الفلكلور المحلّي.

تبدأ الحكاية في القرن 11، مع بداية الدعوة للغزوات الصليبيّة على المشرق العربي… الكثير من الشعوب التي تطوّع بنيّها للجهاد الصليبيّ كانت شعوباً لم تسمع باسم العرب من قبل، لكنّها سمّعت بهم من قصص أساطير المجازر، التي صوّرت العرب همج صحراء؛ غبر شعث، يحتلّون الحواضر المسيحيّة الراقية ويعذّبون سكّانها ويأكلون لحمهم… وهذا في الواقع ميراث حكايات البربر والبرابرة في التراث الروماني، الذي استخدم ذات المنطق لتبرير حرمان بعض الشعوب من مميّزات المواطنة الرومانية الكاملة، وكان أغلب البربر في المنظور الروماني آنذاك هم سكّان مناطق واسعة من غرب شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا وشمال أوروپا وشمال الجزيرة البريطانية، وقد بنى الرومان الأسوار في القرن الثاني لحبس شعوب تلك المناطق في بلادهم ولعزلهم عن السفر إلى الأراضي الرومانية، فلم يلتق بهم مواطن من الداخل الروماني.

نهاية القرن 18 لم يقدر لودڤيگ شلوتسير على تقبّل فكرة قِدم اللّغة العربيّة في عمق التاريخ، ولم يتقبّل أنّ لغات الحضارات القديمة في المشرق هي لهجات تنتمي جميعاً إلى النسخة الأحدث منها: اللّغة العربية. لذا، وأثناء دراسته لتاريخ الشعوب التي تتحدّث لغات على قرابة باللّغة العبرية، وأمام عجزه عن إنكار أنّ جميع هذه اللّغات ما هي غير لهجات من لغة أمّ واحدة، اخترع اسماً جديداً لهذه اللّغة الأم، هو (شيميتيش) Semitisch نسبة إلى “شيم” سام بن نوح، فقط كي لا يسمّيها باللّغة العربية الأم، طالما أنّها بنت شبه الجزيرة العربية. شلوتسير وأثناء دراسة تاريخ العهد القديم من الكتاب المقدّس رفض مراراً تقبّل اتّصال اللّغة العربية بلغة أهل بابل، لأنّ الاعتراف بهذه الحقيقة ينفي أسطورة اجتياح العرب لبلاد “غير العرب” الحكماء أثناء تأسيس الدولة الإسلامية الأولى، وتسقط بالتالي أساطير التعريب، وأساطير تهجير شعوب هذه البلاد واستبدالهم بالعرب.

ولودڤيگ شلوتسير August Ludwig von Schlözer هو مؤرّخ إنجيلي وپيداغوجي ألماني من أعضاء مجموعة مدرسة گوتّينگين Göttingen لدراسة التاريخ التي كانت تعمل ضمن أقسام جامعة گوتّينگين وسط ألمانيا المعاصرة في زكسونيا. هذه المجموعة لعبت دوراً أساسياً في إنشاء قواعد الدراسات التاريخية في المنظور الأوروپي، ومسؤولة كذلك عن صياغة مجموعتين معياريّتين من المصطلحات في العنصرية العلمية

الأولى هي مجموعة مصطلحات بلومينبَخ Blumenbach وماينيرز Meiners التي تصنّف الأعراق على أساس الألوان: قوقازي للعرق الأبيض، مونگولي للعرق الأصفر، مالاي للعرق البنّي، إثيوپي للعرق الأسود، وأميركي للعرق الأحمر… وعلى أساس هذه التصنيفات صيغت الكثير من الفرضيّات والقوانين العنصرية التي أدّت إلى التمييز بين الشعوب على أساس لون البشرة.

الثانية هي مجموعة مصطلحات گاتّيرير Gatterer وشلوتسير Schlözer وآيكهورن Eichhorn وهي المجموعة التي تسمّى اليوم بالمصطلحات المقدّسة، أو مصطلحات الأعراق في الكتاب المقدّس. وهي: سامي، حامي، ويافثي. وأثبت العلم اليوم أنّها جميعاً خرافة ولا يمكن تصنيف الأعراق بناء عليها. سيّما مع سقوطها أمام علم الجينات.

الآن، هذه المجموعة العنصرية من المؤرّخين هي التي كرّرت عنها كلّ الأكاديميّات الأوروپية، فقط لأنها مجموعة إنجيليّة، وهي التي أورثتنا مصطلح شعوب ساميّة، ولغات ساميّة، لأنّها رفضت وبشكل حاد ربط الحضارات القديمة بالعرب المعاصرين، لقطع أيّ اتّصال للمسلمين العرب بتاريخ أجدادهم. إذ تبق النظرة الإنجيلية أنّ من غير الممكن أن يكون الإسلام وليد مجتمعات متحضّرة، وإلا سقطت كل الأساطير الناظمة لمشاعر الكراهية المتراكمة منذ القرون الوسطى.

وعن شلوتسير نقل يوهَن گوتفريد أيكهورن Johann Gottfried Eichhorn سنة 1781 مصطلح “شعوب ساميّة” ونشره في كتاب (مرجع في الأدب التوراتي والمشرقي) Repertorium für biblische und morgenländische Litteratur وهو الكتاب الذي اتّكل عليه كلّ الصحفيّين والمؤرّخين الأوروپيين الغربيّين من بعده لاعتماد المصطلحات والتسميات التاريخيّة.

وعن أيكهورن نقل كارل إدوارد زاخَو Carl Eduard Sachau سنة 1870 مصطلح “لغات سامية” ونشره على المستوى الأكاديمي البريطاني لأوّل مرّة في (دورية الجمعية الملكية الآسيوية لبريطانيا العظمى وآيرلاند) Journal of the Royal Asiatic Society of Great Britain & Ireland في معرض الحديث عن اللّغة الپهلوية الإيرانية التي كانت رسميّة أيّام الإمبراطورية الساسانية؛ منذ القرن الثالث قبل الميلاد. واستعرض الكاتب كثافة وجود الكلمات بأشكال آراميّة داخل النص الپهلوي، ثمّ وسم الكلمات المستوردة من اللّغات الأخرى غير الآرامية بكلمة ”ساميّة“، وأورد أنّها على الأغلب تأثيرات ”الشعوب الساميّة“ في حدود الدولة الساسانية. لم يقدر على استعمال مصطلح “لغات عربية” أو “لهجات عربية قديمة”، طالما أنّ زاخَو مؤرّخ إنجيلي ألماني هو الآخر، يتبنّى فكرة استحالة اتّصال العرب بأجدادهم ما قبل المسيحيّة والإسلام.

هؤلاء “علماء” يرفض منطقهم حقيقة أنّ المسيحيّة هي ديانة عربيّة من الأساس، بدأت في بلاد عربيّة، وانتشرت في أوروپا عن شعوب عربيّة. لذا يبذلون كلّ الجهد للالتفاف على أيّ حقيقة علميّة تربط اليهوديّة والمسيحيّة بالعرب، فيخترعون المصطلحات المضلّلة والمسميّات التي لا تمتّ إلى تاريخ المنطقة بصلة. كي لا يحتوي النص على كلمات “عرب” و”عربيّة”.

سنة 1804 نشأت الإمبراطوريّة الفرنسيّة الأولى (البوناپرتية) التي اعتمدت مصطلحات مجموعة گوتّينگين قبل بريطانيا بسبعين سنة، واستعملت أكبر ماكينة إعلامية في أوروپا آنذاك لنشر الپروپگندا البوناپرتية، التي صاغت تصانيفها لشعوب العالم بناء على مصطلحات گوتّينگين العنصريّة، واستعملت كذلك ذات المنهج الروماني لتحقير العرب البربر، ونفس المنهج الفرنسي الذي استعملته الملكيّة الفرنسية لتحقير العرب والمسلمين قبل الحلف العثماني-الفرنسي… العرب همج برابرة سرّاقين ولصوص وبدو يحاربون التمدّن والتحضّر، والإسلام هو حصيلة عقليّة هذه المجتمعات الآسنة.

وهكذا خرجت الپروپگندا الفرنسيّة تدعوا إلى ضرورة احتلال بلاد العرب واستعمارها لتحضير الشعوب “المتخلّفة” الساكنة فيها. ودعمت الأكاديميّات العلمية هذه الدعوة واستمرّت بميراثها الأكاديمي في آداب غرب أوروپا إلى اليوم: العربي هو رمال صحراء وخيمة وجمل. ولا شيء آخر.

هذا الميراث لن يزول بظهورنا نحن العرب بثياب أوروپية وشهادات تعليمية على المنهج الأوروپي، فهذا لا يكفي. بالنسبة للأوروپي اليوم؛ العربيّ تعلّم ارتداء الثياب أثناء استعمار بلاده للبلاد العربية خلال القرنين 19 و20. ومن بقايا نخبة تلك الحقبة الاستعمارية بقيت اليوم نخبة عربية تستذوق الموسيقى وتعرف آداب الطعام… طالما أنّ العربيّ نفسه اليوم ينكر اتّصاله بتاريخه وينكر على أجداده عروبتهم، فلن تُصحّح صورة تنميط العربي في ذهن أيّ من شعوب العالم. لكي ترانا الشعوب بصورة صحيحة، نحتاج بداية لأن ننظر في مرآة سليمة من شوائب الاستعمار؛ فنتبيّن نحن أوّلاً صورتنا الصحيحة.

المصدر موقع البخاري