2022/12/31 10:37

قدائم دمشق

قدائم دمشق


إذا كانت مدينة دمشق أحد أقدم مدن هذا العالم، فإنّ حيّ جوبر الدمشقي أحد أقدم حكايات دمشق.

كان الحيّ في الأساس قرية جوبر من طيء، وأحد عشر قرى لطيء من قرى الغوطة التي تحيط بمدينة دمشق. هذه القرى مذكورة في التلمود بعددها ولم تُذكر باسمها سوى جوبر، بسبب احتوائها على أقدم كنيس في العالم. كنيس النبي إلياس (1). وكان من عادات اليهود المزراحيّين شدّ للرحال في حجّ إلى هذا الكنيس والصلاة فيه. ومنهم كان الحَبْر العراقي رفرام بار پاپا רַב פַּפָּא، الذي حجّ في القرن الرابع من بابل إلى جوبر للصلاة في كنيسها (2). والحَبْر رفرام من الجيل الخامس من أحبار المورو אמוראים ممّن استلموا إمامة بابل من مطلع القرن الثالث وحتّى نهاية الخامس (3).

سنة 1522 زار دمشق رحّالة إسپاني من بقايا يهود غرناطة، وكان يتتبّع آثار من نزحوا عن إسپانيا في الترحيل الكبير صيف سنة 1492. وسجّل هذا الرحّالة في تدويناته أسماء 60 عائلة جوبرانيّة ممّن كانوا يهوداً في تلك الفترة. وقد أوضح هذا الرحّال أنّ هؤلاء اليهود ليسوا من العائلات النازحة عن الأندلس، إنّما هم دمشقيّون أصلاء، وكانت جوبر آنذاك “أهمّ وأقدم مجتمع يهودي ديمومة خارج أسوار المدينة القديمة.” (4). أمّا النازحون عن الأندلس فقد استوطنوا بأغلبهم حارة الثلاج (حي محسن الأمين) في حيّ الشاغور جنوب دمشق القديمة. وفي حي السامرة في برج الروس. وفي حارة الزيتون.

وتُجمع تدوينات هذا الرحّالة المجهول مع تدوينات الصالحاني ابن طولون من ذات الفترة على أنّ جوبر كانت قرية تتشاركها عائلات يهودية ومسلمة، وكليها عائلات جوبرانية ليس فيها وافدين. وابن طولون هو شمس الدين محمّد بن علي بن أحمد بن طولون الصالحاني الدمشقي الحنفي. صاحب كتاب (الفلك المشحون في أحوال محمّد بن طولون) (5).

سنة 1672 تذكر تدوينات المؤرّخ المصري قاطية يوسف بن اسحق سمباري أنّه زار دمشق ووجد في جوبر أكبر تجمّع يهودي في المدينة؛ وفيها رئاسة هذه التجمّعات (6). أمّا القس الفرنسي جان بابتيست لبات Jean-Baptiste Labat فيذكر أنّه زار جوبر سنة 1735 ولم يجد فيه غير اليهود (7). وعلى هذا فقد بقي جوبر حياً أو قرية خاصة باليهود حتّى القرن 18.

وتذكر السجلّات العثمانية قرية جوبر على أنّ أراضيها تتبع لوقف اليهود وأنّ الطائفة تؤجّرها لأفراد من طوائف غيرها (8). ثمّ خلال حادثة دمشق سنة 1940 في فترة حكم محمّد علي، روّجت القنصلية الفرنسية بين رعاياها من الكاثوليك المسيحيّين في دمشق أنّ اليهود قد اغتالوا البادري الإيطالي توماس الكبّوشي مع خادمه المسلم إبراهيم عمارة، وصنعوا من دمائهم مصة מצה عيد الفصح (9). وكانت غاية فرنسا آنذاك هي الضغط على حكومة محمّد علي وعلى حليفته بريطانيا؛ التي استاءت فرنسا من تنفّذها في ولايتي الشام وحلب، وكانت فرنسا تحسبها مناطق لنفوذها. وكانت استثمارات بريطانيا في دمشق آنذاك تمرّ عبر رعايا طائفة اليهود.

بموجب تلك الاتّهامات اعتقلت الشرطة يهوداً منهم (الحلّاق سليمان) و(داوود هراري) وأهله للتحقيق بتهمة اختطاف وقتل الراهب وخادمه، وأدار القنصل الفرنسي تلك التحقيقات؛ فثار مسيحيّوا دمشق وخرجوا يقتلون اليهود في حيّ الشاغور انتقاماً للأب الكبّوشي، ثمّ زحفوا على جوبر وقتلوا من فيه ودخلوا كنيس النبي إلياس فنهبوه ودمروا لفائف الناموس (10). ولم ينج من يهود جوبر آنذاك إلا نحو ألف، هجر أغلبهم القرية ولم يبق فيها غير ثلاث عائلات فقط. كما أنّ دمشق القديمة فقدت آنذاك 19 كنيس من أصل 22 كانت في المدينة، أغلبها كان للسفارديّين الأندلسيّين (11).

بكلّ حال، بانقضاء سنة 1840 تحوّلت طائفة اليهود في حيّ جوبر إلى أقلّيّة صغيرة جدّاً، مقارنة بنسبة السكّان من المسلمين، وبنفقة من إبراهيم پاشا شخصياً؛ أُعيد ترميم كنيس النبي إلياس وصيانة المكتبة فيه، وهي كانت أقدم مكتبة في العالم من المكتبات القديمة التي لم تزل موجودة من عصر بابل. وأقول كانت لأنّ الكنيس دمّره قصف حكومي عشوائي نال حيّ جوبر في شهر آذار 2013، إلى جانب تخريب مسجد الصحابي حرملة بن الوليد؛ الذي استعمُلت مئذنته من طرف قوّات الجيش العربي السوري كمنصّة للقنّاصة.

وكنيس النبي إلياس في جوبر مبنيّ في القرن 9 ق.م على جُبّ (غار) كان يتعبّد فيه النبي إلياس (12)(13). وهو المعروف بالعبرية باسم إلياهو אֵלִיָּהוּ وفي اللّاتينيّة Elijah. واسمه في العربية كان إيليّا ܐܠܝܐ، إلى أن ورد في القرآن بصيغته الإغريقية إلياس Ηλίας. وقد بنى الكنيس أوّلاً ملك بانياس الجولان (اليسع) في القرن التاسع قبل الميلاد، ثمّ احترق في القرن الأوّل، فأعاد بناءه إيلعازار بن أراش، أحد أحبار الجيل الثاني من عهد التنعيم من أئمّة بابل. (وتنعيم هنا هي تعريب خاطئ للكلمة الآراميّة تنّيّيم תנאים، وهي صيغة جمع لكلمة تنّا תנא التي تعني المثنّي أي المُعيد، ذات اللّقب الذي تمنحه الجامعات العربية اليوم للمدرّسين. وهو المعنى الحرفي للكلمة الآرامية، إذ أنّ أحبار التنّيّين كانوا مدرّسين معيدين بمجملهم.

بكلّ حال، النسخة التي بناها الحبر إيلعازار من الكنيس هي التي بقيت في جوبر حتّى سنة 2013، السنة التي فقد فيها العالم أقدم كنيس لليهود كان فيه. ثم، سنة 2018 وبعد خمس سنوات من قصف الكنيس، أخرج إعلام نظام الأسد أخبار سرقة (فيلق الرحمن) و(جيش الإسلام) لمخطوطات كنيس النبي إلياس وبيعها خارج سوريا، والكنيس كان من الأساس مهملاً بعد القصف ومتروكاً للشمس والمطر طيلة خمس سنوات، لا يجرأ إنسان على الاقتراب منه خشية رصاصات القنّاصة.

أمّا لفائف المخطوطات ذات القيمة العالية والتيجان والكتب القديمة والمنحوتات فقد كانت قد أُخرجت سنة 1993 ونُقلت إلى السفارة الفرنسية في دمشق على يد الحبر إبراهيم حمرا، ثمّ نقلتها الدبلوماسيّة الفرنسية إلى تل أبيب، بالإضافة إلى أقدم نسخة من التوراة، مخطوطة على جلد غزال ومطرّزة بالذهب (14). ما يعني أنّ ما رُوّج عن بيعه من طرف فصائل دمشق في پروپگندا الأسد؛ ما كان ذا قيمة أثريّة تُذكر، وليس من المقتنيات القديمة التي لا تقدّر بثمن.

يبق أن أقول أنّ جوبر في الأساس من قرى طيء في محيط دمشق، وكانت طيء اليهود قد اتّخذت من خيبر مركزاً لها، وامتدّت منها على جنوب العراق، وهي طيء التي كانت تعبد القمر. وهي غير طيء التي تحوّلت لاحقاً إلى المسيحية السريانية وقلّدت تغلب. ولمّا كان الأنباط من طيء فقد استعانوا ببني عمومتهم في حروبهم مع الدولة الأسوريّة الحديثة خلال القرن التاسع قبل الميلاد، وهكذا استوطن يهود طيء حول دمشق، ثمّ جاءت المسيحيّة بعد ألف عام وتبنّتها دمشق في القرن الرابع (بعد 1300 سنة من نشوء الدولة الأسوريّة الحديثة) ما زاد من تمايز طيء غوطة دمشق، لأنّها بقيت على يهوديّتها ولم تتحوّل إلى المسيحية.

ولاحظنا من سير الأخبار في التدوينة أنّ هذه القرى بقيت على يهوديّتها حتّى بعد تحوُّل العرب إلى الإسلام ومع الدول الإسلامية المتعاقبة والمتغيّرة في درجة تعاملها مع الطوائف المختلفة، واستمرّت أحوالها دون تغيير حتّى سنة 1840 حين تغيّر كلّ شيء. وقبلها، ما كان للدمشقيّ مشكلة مع اليهوديّ منه، وحافظ على وجود الكنيس القديم حتّى صار أقدم كنيس يهوديّ في العالم.

المراجع

1 Josef W. Meri. The cult of saints among Muslims and Jews in medieval Syria, Oxford University Press, 2002. Pg. 33. 

المسالك בְּרָכוֹת 50a.

Judith R. Baskin; Kenneth Seeskin (31 July 2010). The Cambridge Guide to Jewish History, Religion, and Culture. Cambridge University Press. p. 77.

Richard GottheilFrants BuhlM. Franco. Jewish Encyclopedia. https://www.jewishencyclopedia.com/articles/4861-damascus 

5 Brill https://referenceworks.brillonline.com/entries/christian-muslim-relations-ii/ibn-tulun-COM_26653?lang=de 

6 Josef W. Meri. The cult of saints among Muslims and Jews in medieval Syria, Oxford University Press, 2002. Pg. 33.

7  Jean Baptiste Labat. Mém. du chevalier d’Arvieux, contenant ses voyages à Constantinople, dans l’Asie, la Syrie, etc, Volume 2, 1735. [University of Lausanne, 18 Sep 2009.] “Il n’est habité que par des juifs sans mêlange d’aucune autre Nation.”

Salma Khadra Jayyusi, Renata Holod, Attilio Petruccioli, André Raymond. The city in the Islamic world, Volume 1, BRILL, 2008. pg. 945.

موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبد الوهاب المسيري، 1999، دار الشروق.

10 Richard GottheilFrants BuhlM. Franco. Jewish Encyclopedia. https://www.jewishencyclopedia.com/articles/4861-damascus 

11 Deutsch, Gotthard and Franco, M. (1901-1906). “DAMASCUS AFFAIR – JewishEncyclopedia.com”. www.jewishencyclopedia.com. Retrieved 2021-04-01.

12 Cyril Glassé, Huston Smith. The new encyclopedia of Islam, Rowman Altamira, 2003. p. 110.

13 Malta Protestant College. Journal of a deputation sent to the East by the committee of the Malta Protestant college, in 1849: containing an account of the present state of the Oriental nations, including their religion, learning, education, customs, and occupations, Volume 2, J. Nisbet and Co., 1854. [Harvard University, December 20, 2005] p. 483.

14 وعد الأحمد. كنيس جوبر، كاتبة سورية تروي ما حدث لأقدم معبد يهودي في العالم، الوطن 10 فبراير 2021.

 

 

المصدر: موقع بخاري