فُلك بخارى
وإبحاره في محيط الإسلام
أحد أضخم المواقع الأثرية في العالم، والذي لم يزل على حالته
الأصلية مذ بني قبل 1600 سنة، يقع في مدينة بخارا (بخارى) الأوزبكية.
فُلك
بُخارا Buxoro arki (بُخورو أركي) هو
حصن هائل الحجم يتوسّط مدينة بخارا (بخارى) في جمهوريّة أوزبكستان. بُني في القرن
الخامس ليكون الحيّ السكني الملكي في المدينة. وسُمّي بالفُلك تشبيهاً بفُلك نوح،
التي ذاعت أسطورتها في آريا الشمالية (مملك الصُغد) قبل الإسلام. وبقيت الفُلك على
استخدامها لما بُنيت له من القرن الخامس وحتّى سنة 1920 حين سقطت تحت الاحتلال
الروسي، وأُخليت من أهلها. قبل ذلك العام أقامت فيها كلّ العائلات الملكيّة التي
حكمت من بخارا أو حكمتها، حتّى تلك العائلات العربيّة التي حكمت ابتداء من القرن
الثامن.
وفق
الأسطورة، بنى فُلك بخارا قائد أسطوري اسمه سیاوَش (سیاڤَش) فارس الفَرس المسحورة
شبرنگ بهزاد. تبعاً لما كتبه في القرن العاشر الشاعر الخراساني أبو القاسم
الفردوسي الطوسي في كتابه الشاهنامه (كتاب المُلك). ومعنى اسم الفرس شبرنگ بهزاد
هو الأصيلة الليلكيّة، أي ذات اللّون اللّيلي. وتكاد تتطابق أسطورة سیاوَش مع
حكايا الكثير من الأمراء والقادة الأسطوريّين عبر التاريخ. وكان لقب سیاوَش بني
الناس هو سيّد الشباب الشهيد.
ورث
سیاوَش وسامته ومهاراته القيادية والعسكرية عن جدّه کیکاووس (بالصُغدية كَوُي
أَوسان 𐬐𐬀𐬎𐬎𐬌 𐬎𐬯𐬀𐬥)
الذي حكم آريا (على نهر المُرغاب) لمدّة 150 سنة بالتحالف مع جاره الملك الپارثي رستم
بن زال بن سام، ونال حظوته السياسيّة عن أبيه کیقوباد (بالصُغدية كَوُي كَوُاته 𐬐𐬀𐬎𐬎𐬌
𐬐𐬀𐬎𐬎𐬁𐬙𐬀)…. غريب تشابه اسم کیکاووس
مع اسم المقوقس ملك القبط في القرن السابع. مع العلم أنّ كلمة کی (كَوُي) تعني
مَلِك. فکیکاووس كان ملكاً على بيت أوسان، وابنه کیقوباد كان ملكاً على بيت
قوباد. أمّا ابن کیقوباد سیاوَش فما نال لقب ملك لأنّه قُتل ظُلماً ولم يزل
أميراً. فلننظر في حكايته.
أمير هارب من زوجة أبيه
لمّا
اعتمر سیاوَش وصار فاعلاً في بلاط جدّه ملك آريا، اشتهته زوجة أبيه سودابه واحترقت
عليه. فرفضها سیاوَش وامتنع عنها على الرغم من كثرة ما تحايلت عليه لتغويه. ولمّا
رفضها ادّعت أنّه اغتصبها وأنّها باغتصابه لها أجهضت جنيناً كان في رحمها. وليُثبت
براءته كان على سياوَش أن يصعد جبلاً من نار فلا يؤذيه، وساعدته إذ ذاك فرسه
المسحورة شبرنگ بهزاد. وعلى الرغم من قناعة الملك ببراءة ابنه سیاوَش لكنّه ما
استطاع اتّهام زوجته التي يحبّ، ولا أحبّ إغضاب أبيها ملك الصين، وكان حليفاً
قويّاً لآريا آنذاك في وجه ملك طوران. إذ ذاك، ولاستدراك الموقف، رحل سیاوَش إلى
منفى اختياري في بلاد طوران (توران)، حيث عاش لاجئاً لدى عدوّ آريا اللّدود الملك
أفراسياب.
أفراسياب،
فرِحاً بهديّة مشاكل جارته آريان، قدّم ابنته فَرَنگیس زوجة هديّة سیاوَش، وكانت
أكبر بناته. وفي نسخة ثانية من الأسطورة نقرأ أن سیاوَش وقع في حبّ فَرَنگیس
وطلبها زوجة من أبيها، فاشترط عليه أفراسياب أن يبني لها قصراً مهراً على قطعة
أرض، إن استطاع أن يحيطها بجلد ثور (كشرط تعجيزي)، فحلّ سياوَش المعضلة بذكاء حين
قطّع جلد الثورة إلى شرائط رفيعة ووصلها معهاً فاستطاع أن يحيط بها كامل الأرض
المقصودة، وبُني القصر داخلها. ويبدو أنّ أفراسياب طمع بحليف يضمّ إليه مُلك آريا
إن صار الأمير سیاوَش صهراً له… بعد سنوات قليلة رفض سیاوَش قيادة حرب طورانية على
آريان فقتله أفراسياب وقطع رأسه وهمّ باعتقال زوجته لقتل ابنه (حفيده). لكنّ
الأميرة فَرَنگیس فرّت بابنهما عائدة إلى بلاد حماها کیقوباد.
كبر
ابنها في بلاد کیکاووس وخلفه فيم بعد فصار ملك طوران الشهير في كتب التاريخ؛ کیخسرو
(بالصُغدية كَوُي أوسرَوُوناه 𐬐𐬀𐬎𐬎𐬌 𐬵𐬀𐬊𐬯𐬭𐬀𐬎𐬎𐬀𐬢𐬵𐬀).
ووفقاً لأسطور كان کیخسرو بن سیاوَش أعظم ملوك آريان حين اجتاح طوران فهزمها وقتل
ملكها؛ جدّه أفراسياب، وانتقم لمقتل أبيه سیاوَش. ومن وقتها صارت طوران عرش البيت
الآري. فانتقل بعرشه من آريا إلى بخارا، وهناك ابتنى لأهله وقاداته حصن الفُلك
الموجود إلى اليوم، في مكان القصر الذي باتناه أبوه مهراً للأميرة فَرَنگیس.
هذا
الكلام كلّه أسطورة، نقلها إلينا عبر الزمن الشاعر الفردوسي في كتابه الشاهنامه،
وكتبه بالفارسية المتداولة في القرن العاشر، وهذا سبب الأسماء الفارسية للشخصيّات
فيه. أمّا الحقيقة فهي أنّ حصن فُلك بخارا قد بُني على حصن كان قبله، هُدم الحصن
القديم على طريقة الحروب وبني الجديد على ركامه. والركام متراكم تحت الحصن المعاصر
حتّى عمق 20 متر، ما يدلّ كذلك على عظمة الحصن
أقدم ذكر
غير أسطوري لحصن الفُلك نجده من القرن العاشر كذلك في كتاب للمؤرّخ الصُغدي أبوبکر
محمد نرشخي. ويذكر أنّه هُدم وبُني عدّة مرّات، وآخر من أقام فيه قبل الإسلام كانت
الملكة خاتون الشهيرة، التي أبت الاستسلام لقوّات المسلمين، فنزحت عن الحصن مع
رعيّتها إلى خارج بخارا، تاركة المدينة خاوية إلّا من يهودها للحكّام العرب
المسلمين. وكان لخاتون زوج هو الملك بِندُ؛ قتله في خراسان القائد الأموي سالم بن
زياد سنة 681. وسالم من البيت الأموي وكان حاكماً على حمص حين كلّفه الخليفة حكم خراسان.
وهي التي انطلق منها قتيبة بن مسلم الباهلي لفتح ما وراء النهر (المملكة الصُغدية)
وهي التي سمّاها العرب آريا الشمالية، وسمّاها الفرس طوران (توران).
وكان سبب
إصرار الأمويّين على فتح آريا الشمالية هو حلفها مع الصين، ثاني أعداء الأمويّين
أهمّية على الساحة الدوليّة آنذاك، بسبب دعمهم لبقايا الساسان في باكتريا وتسليحهم
المستمر في مواجهة العرب، بالإضافة إلى حلفهم البيزنطيّين بعد سقوط مملكة الساسان.
وما بين الأسطورة والتاريخ، يبق حصن الفُلك واحداً من أضخم المواقع الأثريّة في
العالم.
إسلام بخارا
سنة 706
اندلعت حرب أهلية في مملكة بخارا الصُغدية، وانفرطت إمارات صغيرة بين الموالين
للصين والموالين للعرب والموالين للاستقلال. وكانت خراسان، البلد المجاور، قد صارت
بلداً عربياً قبل 64 سنة، منذ سنة 642. وعاداها الصُغد الزاردشت آنذاك. وتدخّل
حاكم خُراسان العربي بقوّاته في الحرب البخاريّة دون تردّد. داعماً هذا ومحارباً
ذاك وناشراً قوّاته حيث استطاع في أراضي المملكة.
وعلى إثر
الحرب الأهلية تجمّعت الأحزاب الزرادشتية المواليد للصين في سمرقند بينما تجمّعت
الأحزاب الموالية للاستقلال في بخارا تحت إمارة نبيل اسمه خونوك؛ الذي تنافس على
منصب الملك مع ضابط اسمه وردان يعادي العرب. سنة 709 قتل قتيبة بن مسلم الباهلي
وردان خوده ودخل مدينة بخارا أوّل مرّة، ثمّ أعدم فيلق خونوك. بعدها بثلاث سنوات
أرسل ترخون خودة حاكم سمرقند إلى الباهلي يهادن ويعترف بسلطة الخلافة الأموية،
وانتهت هكذا الحرب العربية-الصينية بالوكالة وانتقلت إلى المواجهة الفعلية داخل
حدود الصين.
في مدينة
بخارا نزل قتيبة الباهلي مع ضبّاطه سنة 709 في حصن فُلك بخارا، وكانت قد رحلت عنه
الملكة خاتون (أرملة الملك بِندُ الذي قتله سالم بن زياد سنة 681) مع حاشيتها
ودولتها لاجئين إلى الصين، تاركة المدينة خاوية إلّا من يهودها. آنذاك لم يبن
الباهلي مسجداً داخل مدينة الفُلك الملكيّة، إنّما ترك المسجد الزرادشتي داخلها
وتوجّه إلى مسجد زرادشتي آخر في سوق كان ليهود طيء وسط بخارا. والسوق هو سوق
العطّارين في ساحة لم تزل على اسمها إلى اليوم.
المسجد
الزرادشتي فيها كان أساساً معبداً لعبادة مقه القمر، ثمّ صار لعبادة ميثرا الشمس
لفترة وجيزة ثمّ صار كنيساً يهودياً حين تحوّلت طيء عن عبادة القمر، ثمّ حوّله
الساسان إلى مسجد للزرادشتية، مع تحوّل الطبقة الأرستقراطية الصُغدية إليها. سنة
709 قام الباهلي بتحويل هذا المسجد إلى مسجد للمسلمين، وصار اسمه إذ ذاك “مسجد
مغاکي عطّاري” Magʻoki Attori masjidi ولم يزل قائماً إلى اليوم.
على إثر
حريق بخارى الكبير أعيد بناء المسجد في القرن التاسع. وبقيت عادات البخاريّة أن
يتشارك المسلمون واليهود الصلاة في هذا المسجد. أحياناً صلّى اليهود والمسلمين
البخاريّين جنباً إلى جنب في نفس المكان وفي نفس الوقت. وأحياناً صلّى اليهود بعد
المسلمين. وبقيت هذه العادات دارجة إلى أن أغلق الشيوعيّون المسجد. ويُستعمل اليوم
كمتحف للسجّاد.
إقلاع الفُلك في محيط الإسلام
ثار
الزرادشت في بخارى على قتيبة الباهلي ثلاث مرّات، فقام سنة 713 بتطهير حصن فُلك
بخارا من الزرادشتية وحوّل المسجد فيها إلى مسجد للمسلمين وأعلنه مسجد جمعة داعياً
أهل المدينة للصلاة فيه. وكان حصن الفُلك قبلها محرّماً على أهل المدينة لا يدخلون
إليه.
سنة 718
اغتيل ترخون خودة حاكم سمرقند وخلفه گوراك خوده، وهو ضابط كان قد نفاه ترخون على
إثر رفضه للتحالف مع العرب. بعد موت ترخون عاد گوراك وتمّ تنصيبه ملكاً على الصُغد
فتحالف مع مجموعة من بقايا الدولة القديمة وراسل ملك تانگ في الصين يطلب الحلف
والمدد ضدّ العرب. نال گوراك فعلاً دعماً صينيّاً لكنّه ما كان دعماً عسكرياً،
إنّما دعمته الصين دبلوماسياً ليقبل العرب به ملكاً على سمرقند حتى وفاته سنة 737.
سنة 738 ثار الزرادشت من جديد في بخارى ضدّ الحكم الإسلامي وقُتل الحاكم الصُغدي
توغشادة الموالي للمسلمين، فقُمعت الثورة بعدها بعام، ونُصّب ابن توغشادة قتيبة في
مكانه وكان مسلماً موالياً بالمطلق للعرب، ساهم كذلك في تعريب المدينة.
وكان
توغشادة قد سمّى ابنه قتيبة على اسم القائد قتيبة بن مسلم الباهلي تكريماً له،
وتودّداً لسيرته. ذلك أنّه أدخل الإسلام إلى بخارا قبل اغتيال توغشادة بثلاثين سنة.
بعد تلك
المرحلة صار مسجد حصن الفُلك مكاناً لصلاة الجمعة خاصّاً بالملك وحاشيته وبالسفراء
والوزراء والأمراء والضبّاط، وجميعهم يقيمون حول المسجد وعلى القرب منه داخل أسوار
الحصن. ثمّ في القرن 17 أعيد بناء المسجد وترميمه ووُصل بقصر الأمير برواق مع شرفة
مزينة، أقيم فوقها قاعة كبيرة حيث كان يتمّ الترحيب بالضيوف الأجانب والسفارات. في
هذه القاعة كان يتمّ تنصيب الوزراء والضبّاط. واسمها قاعة التتويج.
سنة 1920
وبعد الاحتلال الروسي لبخارى سنة 1917، أخلي حصن الفُلك من سكّانه وناله قصف عنيف
خرّب مبان فيه، ونُقل مكان صلاة الجمعة من مسجد الحصن إلى مسجد حاووز بولو
Bolo Haouz المقابل تماماً لبوابه الحصن الرئيسيّة. وكان
من عادة البخاريّين أن يكون لمسجد الجمعة صالة صيفية وصالة شتوية، والصيفية تكون
إيواناً تحت سقالة خشبية كبيرة مفتوحة من ثلاث جهات أو اثنتين. لذا، سنة 1917 بنى
أمير بخارى سقالة وإيوان صلاة صيفي ومنارة لمسجد حاووز بولو لكي يصبح صالحاً كمسجد
جمعة.
اليوم،
الحصن وقصوره والمسجد فيه من أهمّ مواقع الجذب السياحي في مدينة بخارى.
المصدر: موقع بخاري