حكاية
القهوة، من طقطق إلى السلام عليكم
من المهم أن نتحدّث في حكاية القهوة من الأساس؛ ميلادها، وأوّل من
شربها، وسبب طبخها وشربها… هذه الحكايات تساعدنا على تطوير ذائقتنا للقهوة فنتعلّم
كيف نستمتع بها أكثر.
أقدم ذكر
باق لتاريخ القهوة والبن مصدره الوحيد هو كتاب تركه في القرن 16 مؤرّخ ومفتي حنبلي
اسمه عبد القادر بن محمد الأنصاري المشهور باسم زين الدين الجزيري. مكان ولادته
غير معروف تماماً، لكنّه كان إلى الشمال من بغداد ضمن منطقة الجزيرة؛ وعلى الأغلب
ضمن ديار ربيعة، درس في القاهرة وفي مكّة، وعاش واشتغل مفتياً في القاهرة في بداية
عهد الدولة العثمانية فيها.
جزء من
كتاب الجزيري ترجمه المستشرق الفرنسي أنطوان گالان Antoine Galland ونشره في القرن 17 في كتاب عنوانه: عن أصل القهوة
وتطوّرها De
l’origine et du progrès du café. وفيم
بعد، أخذ كلّ الصحفيّين الأوروپيّين عن گالان كمصدر. وهكذا انتشر علم القهوة
وآدابها الكلاسيكيّة غرب أوروپا. وسبب اشتغال الشيخ الجزيري في كتاب موسوعي حول
القهوة كان فتوى أصدرها الأزهر سنة 1532 حرّم فيها شرب القهوة واعتبرها من الخمور.
فكان ردّ الشيخ الحنبلي هو الاشتغال على موسوعة أظهر فيها سنة 1587 بالبيّنة
العلمية جواز شرب القهوة وانفصالها عن تصنيف الخمور.
المهم،
الجزيري كتب في كتابه؛ عمدة
الصفوة في حلّ القهوة، حكاية
انتشار مشروب القهوة من اليمن وانتقالها إلى مكّة سنة 1414، ومنها إلى المدينة
المنوّرة، ومنها مع الطلبة الصوفيّين اليمنيّين في جامعة الأزهر بالقاهرة بعد سنة
1517. لكن حتّى هذا التاريخ ما كان من مقاه في القاهرة بعد، وكان استهلاكها محدود
بالجالية اليمنيّة فيها. لكن، فتوى سنة 1532 أذاعت شهرة القهوة بين الناس، كما
فعلت قبلها حركة النكاية اللي بدأتها دمشق ضد فتوى مماثلة حرّمت القهوة من
القسطنطينية سنة 1511 واستمرّت إلى أن أسقطها السلطان سليمان الأوّل سنة 1524 وقال
للمشايخ السلفية: “كفى هراء، القهوة ليست خمرة” (والاقتباس خيالي).
سنة 1530
لمّا فتح أوّل مقهى في دمشق انتقلت فكرته بسرعة إلى حلب وبغداد والقاهرة، وافتُتح
أوّل مقهى فيها بعد أكثر من سنة بقليل، فجاء الردّ من الأزهر سنة 1532 بتحريم
القهوة استناداً إلى فتوى
الشيخ الڤاني من القسطنطينية سنة 1511، وساق
الأزهر غوغاء حرقت المقاهي الجديدة والمستودعات التي تختزن شولات البن. وهكذا أتعب
الشيخ الجزيري الحنبلي نفسه واشتغل على تأليف كتاب رائع في تاريخ القهوة وآدابها،
أثبت فيه بُطلان فتوى الڤاني وبالتالي فتوى الأزهر، وعادت القهوة وانتشرت بلا
مشاكل بين الناس… تخيّل لو بقيت الناس على فتوى الأزهر! كنّا اليوم بلا قهوة
صباحية ونشربها سرقة مثل النبيذ!!
في
كتابه؛ عمدة الصفوة في حلّ القهوة، سرد الشيخ الجزيري حكاية اعتماد الصوفيّين في
اليمن لمشروب القهوة كعادة مستحبّة للإقهاء عن الطعام وتيسير الزهد وتهدئة النفس
لتمكين الدراسة والتفكير. وكانت قد صدرت فتوى بهذه الفكرة سنة 1454 عن الشيخ
العدني جمال الدين أبو عبد الله محمّد بن سعيد الذبحاني. وكان لهذا الشيخ العدني
الفضل بترويج زراعة شجرة البن بأنحاء اليمن. قبل القرن 15 كان البن محصول برّي
يُجمع من شجرتها البريّة دون إدارة زراعتها. وبعد شيوع زراعة البن في اليمن صار
ميناء المُخاء هو الميناء الرئيس في العالم لتصدير القهوة، وانحدرت عن اسمه تسمية
القهوة موكا، تحوير تركي وأوروپي لاسم المُخا.
في كتاب
بريطاني حكومي اسمه Precis
of Papers Regarding Aden منشور
سنة 1876 منقول عن القبطان هينز Haines في الصفحة
166 كلامه عن مصادر البن المصدّر لعدن ثمّ للهند عبر ميناء بربرة الصومالي، وقال
أنّ هذه الممالك بدأت تزرع شجر البن بعد شيوع تجارتها وزراعتها باليمن، وليس
قبلها. وسبب انتشار زراعة البن فيها بحسب هينز كان منافسة بريطانيا للعثمانية
المسيطرة على ميناء المخاء، بعد استحواذ بريطانيا على ميناء عدن. وهذه الممالك هي هرر
(مدينة الأَوْلِيَاء)، والحبشة መንግሥተ ኢትዮጵያ،
والكفّه የከፋ መንግሥት.
عموماً،
الشيخ الجزيري يذكر عدّة مشايخ عرب استخدموا مشروب القهوة كعلاج طبّي قبل شيوع
شربها بين الناس، ومنهم الشيخ الشاذلي المغربي في القرن 13. ويذكر كذلك حكاية عن
شاب مكّي اسمه عُمر الشاذلي كان أحد مريدي الشيخ الشاذلي، وينسب اختراع مشروب
القهوة لهذا الشاب. يقول الشيخ الجزيري عن عُمر أنّه طُرد منفيّاً عن مكّة فرحل
صوب الشمال ولجأ إلى كهف. ولمّا جاع حاول أكل حبّات من شجيرة قريبة ظنّها فول،
لكنّه استاء من طعمها المرّ. حاول أن يحمّص حبوب البن لتحسين نكهتها فصارت قاسية،
قام بغلي الحبوب عسى أن تطرى في حساء وأسعده طعم المشروب الناتج، وهكذا ولدت
القهوة. مرّ راعي التقى بعمر فحكى له عن المشروب الجديد، ونقل هذا الراعي الخبر
إلى مكّة، فعثر به أهله واسترجعوه واستمتعوا معه بشرب القهوة.
وإذا
صحّت هذه الحكاية، تكون القهوة مشروب من مواليد منطقة الحجاز، لا من إثيوپيا ولا
من اليمن، وكذلك تكون شجرة البن موجودة بشكل برّي في الحجاز وشبه الجزيرة العربية
وما استوردها أهل اليمن من إثيوپيا، على خلاف الشائع. إنّما هي عادة عربية 100٪.
في حكاية
ثانية أنقلها عن شيخ دمشقي من القرن 17 اسمه نجم الدين الغزّي في كتابه؛ الكواكب
السائرة بأعيان المائة العاشرة. ويصحّح الغزّي للجزيري أنّ الشيخ الشاذلي المذكور بسيرة نشر عادة شرب
القهوة كان الشيخ الحضرمي أبو بكر الشاذلي العدني العيدروس من القرن 15، والمشكلة
تشابه أسماء. وهذا الشيخ هو صاحب مسجد العيدروس بمدينة عدن. ويروي الشيخ الغزّي
حكاية إعجاب الشاذلي بحبوب البن لمّا لقي فيها “تخفيفاً للدماغ واجتلاباً للسهر
وتنشيطاً للعبادة فاتّخذه قوتاً وطعاماً وشراباً وأرشد أتباعه إلى ذلك”. وبفضله
انتشرت زراعة شجر البن في اليمن. هذا الكلام معناه أنّ شجر البن كان موجوداً في
اليمن بشكل برّي قبل بداية زراعته، حتّى صادفه الشيخ العيدروس وأحبّ أن يجرّبه.
من جهة
ثانية، في مخطوط من القرن العاشر للطبيب الإيراني الشهير أبو بكر الرَّازِيّ ذُكرت
سيرة حبوب البن وكتب عن فوائد مضغها العلاجيّة كمهدّئة للأعصاب ومداوية للغضب،
وذكر أنّه تعرّف بها وتعلّم عنها في مدينة بغداد. مع الأسف ضاع اليوم المخطوط
الأصلي وبقيت عنه ترجمة فرنسيّة كتبها في القرن 17 الصيدلاني الپروتستانتي فيليب
سيلڤستر دوفور Philippe
Sylvestre Dufour ووضعها في
كتابه Traitez nouveaux et curieux du café. لكن
هذه المعلومة تقول أنّ العرب عرفوا البن من القرن العاشر على الأقل، واستخدمنه
للعلاج الطبّي. وما كان سيُعرف البنّ آنذاك لو لم يكن موجوداً كنبات في الديار
العربيّة.
سنة 2003
وفي كتابه “تاجر القهوة” The Coffee Trader يحكي الكاتب الأميركي ديڤد لِس David Liss قصّة سرقة شتلة قهوة من اليمن. ويسرد قصّة حياة قبطان وتاجر
ملبوسات هولاندي اسمه پيتر فان دن بروكه Pieter van den
Broecke كان يشتغل مع شركة الهند الشرقية الهولاندية
VOC. هذا التاجر زار مدينة عدن سنة 1614 وتعرّف فيها
بمشروب القهوة، كما زار ميناء الشحر في حضرموت وأسّس فيه مركز تجاري وصناعي
هولاندي. وبعدها رجع سنة 1616 وزار ميناء المخاء وقدر وعلى تهريب شجيرة بن منها
إلى هولاندا. وقتها كانت العثمانيّة لم تزل تمنع زراعة البن خارج اليمن، وتحتكر
بالتالي تصدير حبوب البن المسلوقة للعالم.
في
أمستردام سلّم پيتر شجيرة البن لمكتب VOC التي حاولت أن
تزرعها في هولاندا وفشلت فشل جزئي، لكنّها أرسلت منها شتلات إلى مستعمراتها في
جزيرة جاوة الإندونيسية، ونجحت بحصد محصول جيّد من البن من هذه المناطق ورجع
ليُباع في أوروپا. وبعد حوالي مئة سنة جرّبت هولاندا أن تزرع البن العربي في
سورينام جنوب الأميركية بين سنوات 1712 و 1718 ونجحت نجاح باهر بشكل ألغى الحاجة
لاستيراد البن اليمني…
هذه
القصّة تلغي ادّعاءات انتساب البن لإثيوپيا، ذلك أن لو كانت شجرة البن موجودة في
إثيوپيا قبل القرن 17 لما اضطر التاجر الهولاندي لأن يسرقها من اليمن، كان،
وببساطة، استورد بن من إثيوپيا التي ما كانت خاضعة للتحكّم التجاري العثماني
آنذاك. أخيراً سنة 1820 دمّرت شركة الهند الشرقيّة البريطانيّة ميناء المخاء
بالتعاون مع البحريّة الإيطالية، ثم سنة 1839 وقّعت اليمن اتّفاق مع بريطانيا
استلمت فيه الأخيرة إدارة تجارة البن بميناء المخاء، ونقلته بالكامل لمياء عدن،
وتخامد بعدها تصدير البن اليمني خلال عدّة عقود، طالما صارت بريطانيا تنتج البن
وتصدّره من البرازيل.
الرحالة
السويسري يوهان لودڤيك بُركهارت Johann Ludwig Burckhardt مكتشف البتراء، درس اللّغة العربيّة والشرع الإسلامي في مدينة حلب وتحوّل
فيها إلى الإسلام على المذهب الوهّابي سنة 1809 وغيّر اسمه إلى إبراهيم بن عبد الله
ونزل عاش فترة في مكّة. إبراهيم السويسري هذا ترك كتاب قبل وفاته سنة 1817 ثمّ
نُشر الكتاب سنة 1819. واسمه “سفريّات في النوبة” Travels
in Nubia يحكي فيه مساعي بريطانيا لتدمير
تجارة البن اليمني وقتها، ويسرد كيف صارت بريطانيا تزرع البن السيئ في إثيوپيا
وتبيعه في العالم على أنّه بن عربي يمني حتّى تضرب سمعة البن اليمني. ومن جهة
ثانية تبيع البن الإثيوپي نفسه في اليمن بثلث سعر البن العربي، حتّى تضارب على
المزارعين اليمنيّين وتجبرهم على التخلّي عن زراعة البن.
وعلى
ذلك، فكلّ الحكايا عن الراعي الإثيوپي الذي قدّم مشروب القهوة للعالم مجرّد
خرافات. شجرة البن كانت موجودة بشكل برّي في شبه الجزيرة العربية من زمن بعيد،
وعرف العرب حبوبها واستخدموها للعلاج الطبّي من القرن 10 على الأقل، وعرفوا مشروب
القهوة من القرن 13 على الأقل. وانتظرت العرب حتّى القرن 16 لتخترع المقاهي…
وربّما كانت موجودة من قبل، لكن دون توثيق. عموماً، كانت القهوة كمشروب تُدار في
مجالس ومضافات مكّة من بدايات القرن 15، على الأقل. والمجالس مثل مقاهي مجّانية
بلا طاولات.
القهوة
مشروب عربي، قدّمه العرب للعالم، ولهم بها الفضل على العالم كلّه
الصورة
في الأعلى لتاجر القهوة غالب الحماسي مع محصوله من بن الموكا العربي رائع الطعم.
المصدر: موقع بخاري