جورجيا،
البلد العربي
حكم العرب جورجيا لفترة امتدّت على قرابة 600 سنة متّصلة. ما جعلها
واحدة من بلدان العرب ولفترة طويلة، تتكلّم العربية، وتقيم للعرب تراثاً في
القوقاز، ويعتبرها العالم أحد العتبات العربية في منطقة البحر الأسود.
يسمّي
الجورجيّون تلك الفترة من حياة بلادهم باسم عَربوبه არაბობა، وهي فترة منسيّة
ومتجاهلة في كتب التاريخ العربية، لكأنّ العرب ما كان لهم وجود ولا كيان في
القوقاز. ويبدو أنّ تلك الفترة تبدأ حين استعمل الرومان كتائب عربيّة في جورجيا
لحمايتها أو لأخذها من الساسان.
تبدأ
حكاية جورجيا سنة 302 ق.م بتأسيس السلوقيّين لمملكة كارتلي ქართლი التي عرفها الإغريق باسم إبيريا
Ἰβηρία وعرفها الرومان باسم هِبيريه
Hiberia، ويُعتقد أنّ تسمية إبيريا هي تحوير لتسمية
أَوَارْ أو آڤار وهم أسلاف الشركس. بينما تنتشر في ربوع القوقاز والبلقان العديد
من الأنهار التي تحمل اسم إبيريا، تماماً كاسم النهر الجاري شمال شرق شبه جزيرة
إبيريا غرب آوروپا.
استقلّت
مملكة كارتلي سنة 159 ق.م ثمّ خضعت للرومان سنة 65 ق.م. ثمّ أخذها الساسان سنة 255
وأطلقوا عليها اسم ڤيروزان. ثم أخذها الرومان من جديد بموجب معاهدة نصيبين سنة
299، ثمّ استعادها الساسان بموجب معاهدة اسيليسين سنة 363، ثمّ جعلوها محافظة
عسكرية (مرزبانه) سنة 580 ونصّبوا عليها ضابطاً عسكرياً. وهنا تبدأ إرهاصات
المرحلة العربية من حياة جورجيا.
الضابط
الذي عيّنة الساسان مرزباناً على كارتلي أسّس سلالة الگوارَميّين التي تنتسب لاسمه
گوارَم გუარამ. وگوارَم هذا هو من عشيرة المِرانيّين، وتسمّى عشيرة
المِرانيّين كذلك بعشيرة مهران 𐭬𐭨𐭥𐭠𐭭. وبحسب سجلّات
العشيرة، تفرّع عنها فرعين ملكيّين، هنّ: ملوك ألبانيا القوقاز وملوك كارتلي. وبحسب
سجلّاتهم كذلك تعود أنساب المِرانيّين إلى الأسرة الأشكانية وإلى الملك أسّاكا
نفسه (1) المؤسّس للإمبراطورية الپارثية 𐭐𐭓𐭕𐭅،
فهم بذلك من الساكا المزارعين ومن عشيرة أپارني الداهانية. وبهذا يكون نسبهم تركماني
تركي وليس آري. (2)(3)
ما بين
سنتي 317 و 319 وأثناء الحكم الروماني لمملكة كارتلي، تحوّلت الطبقة الأرستقراطية
فيها إلى المسيحية على الكنيسة السريانية الأنطاكيّة وانتشرت اللّغة السريانية في
البلد كلغة دينية. وبعد عقدين من بداية تحوّل نبلاء كارتلي إلى المسيحية تبنّاها
فرع من عشيرة المِرانيّين، ومنهم كان گوارَم المؤسّس لإبيريا المسيحيّة، الذي كان
من رعايا الإمبراطور موريس ومن مستشاريه في بلاطه. ثمّ عيّنه الساسان مرزباناً على
كارتلي بموجب طلب من الإمبراطور البيزنطي، ثمّ ضمنت هذه الإجراءات استمرارها بموجب
اتّفاقية سنة 591 ما بين البيزنطيين والساسان. ويبدو أنّ موريس آنذاك كان من
الميّالين للكنيسة السريانية.
تحت حكم
گوارَم الأوّل فتحت كارتلي أبوابها للمبشّرين السريان واستورد الملك أساقف عرب من
سوريا للكنائس الكارتلية (الإبيرية). هذه الطبقة الكنسيّة استمرّت بالنموّ في
كارتلي حتّى استقلّت بالبلد أخيراً عن الحكم الساساني سنة 627 تحت اسم إمارة
إبيريا.
سنة 590
توفّي گوارَم وورث عنه الحكم ابنه ستيفان სტეფანოზ I وستيفان كان ميّالاً للعساكر العرب في
بلاده، وقريباً أكثر من الكنيسة السريانية. وفي ظلّ حكم ستيفان الأوّل تحوّلت قرية
تفليسي (تبليسي) إلى مدينة عربية مسيحية، تمركزت فيها الأرستقراطية السريانية في كارتلي؛
بينما كانت العاصمة السياسية لم تزل في مسخيتا მცხეთა التي كانت فيها جالية إغريقية مهمّة
توالي البيزنطيّين. (4)
في أعقاب
اغتيال الإمبراطور البيزنطي مَوريس Μαυρίκιος سنة 602
تحوّل ستيفان بولائه السياسي عن البيزنطيّين إلى الساسان، وانتقل بعاصمته إلى تفليسي
ليكون في حماية النخبة العربية الموالية بدورها للساسان. ثمّ غزت الجيوش البيزنطية
تفليسي وقتلت الملك ستيفان سنة 627، ووقعت كارتلي بالتالي تحت الاحتلال
البيزنطي-الخزري.
بمقتل
الملك ستيفان وسقوط كارتلي تحت الاحتلال البيزنطي انحاز بيت الگوارَميّين بالكامل إلى
العرب وأعلنوا استقلالاً اسميّاً لإمارة إبيريا مسيحيّة سريانيّة، وتحالفوا مع
العرب لطرد البيزنطيّين عن بلادهم. ونجح العرب بالفعل سنة 645 بأخذ (تحرير)
إبيريا. ثمّ سنة 655 أتبعوها حماية إمارة أرمينيا الأموية، مع إبقاء الأسرة
الگوارَميّة على تفليسي.
سنة 684
غزا الخزر تفليسي ونجحوا بقتل أميرها آدُرنَسيه الثاني ადარნასე II فانتقل العرش بالتالي إلى الأمير
گوارَم الثاني გუარამ II، وما هي إلا خمس سنوات حتّى نجح البيزنطيّون بهزيمة العرب في
إبيريا سنة 689 فتحوّل گوارَم الثاني بولائه إلى البيزنطيّين وراسل الإمبراطور
جستنيان الثاني Ἰουστινιανός يقدّم الطاعات.
توفّي
گوارَم الثاني سنة 693 وهي ذات السنة التي نجح فيها العرب باستمالة الخزر إلى
حلفهم، فطُرد البيزنطيّون عن إبيريا نهائيّاً، وخضع الأمير گوارَم الثالث فيها إلى
سلطة والي عربي مسلم في تفليسي، ما فتح الأبواب لانتشار الدعوة الإسلامية في
إبيريا وزيادة أعداد المسلمين. ثمّ استقلّت إبيريا سنة 736 كإمارة عربيّة
إسلاميّة-مسيحيّة تحت اسم إمارة تفليسي وبقيت تحت حماية أسرة البطارقة (مملكة
الرحاب).
خلال
النصف الثاني من القرن الثامن سافر عطّار بغدادي عربي مسلم إلى إبيريا وفيها تحوّل
إلى المسيحيّة وبدأ يدعو من أبخازيا من إلى ثورة ضدّ حكم الخليفة العبّاسي. وكانت
أبخازيا قد استقلّت سنة 767 عن حكم البيزنطيّين واحتضنت جالية كبيرة من الإبيريّين
المعارضين للحكم العبّاسي، وصارت تطالب باستقلال إبيريا عن الخلافة. هذه الجالية
استعملت ذلك العطّار البغدادي في پروپگاندا الكنيسة الإبيريّة ضدّ الخلافة
العبّاسية. أخيراً سنة 785 اعتقلته السلطان العبّاسية في تفليسي، وأعدمته بعد
محاكمة في العام التالي. ونتيجة لإعدامه اعتبره سريان تفليسي قدّيساً شفيعاً
لمدينتهم، وصار لقبه القدّيس أبو تفليسي الذي لم يزل إلى اليوم مبجّلاً في الكنيسة
الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية والمشرقية.
سنة 833
حاول أمير إبيريا إسحق بن اسماعيل بن شعيب التفليسي الاستقلال عن الخلافة
العبّاسية، وجمع حلفاً من نبلاء إبيريا العرب وبقايا الإقطاعيّين الگوارَميّين
والأمراء الجورجيّين في أبخازيا، واستمرّ الاستقلال فعلاً لعشرين سنة. لكنّ
الخليفة المتوكّل أرسل عليه الضابط التركي بوقا الكبير الذي أقنع بيت بَگرَتيوني
الجورجي بالتخلّي عن حلف إسحق والانتماء إلى العبّاسيّة، وبالفعل حاصر جيشا بوقا
وبَگرَتيوني تفليسي ثمّ أحرقوها سنة 853 وقتلوا الأمير. (5)
منع
العبّاسيّون إعادة بناء تفليسي ولعدّة عقود ما قتل فرصة المدينة لأن تصبح مركزاً
لدولة عربية إسلامية مستقلّة في القوقاز. ونتيجة لذلك تلاشت هيبة المسلمين وسلطتهم
في المنطقة، لكنّ ذلك لم يمحو سلطة العرب، إذ كان لم يزل في إبيريا عدد كبير من أتباع
الكنيسة السريانية متحدّثي العربيّة، والذين عرفوا بلدهم كبلد عربيّ في القوقاز.
وبهذا استمرّت إمارة تفليسي بلداً عربياً في القوقاز حتّى سنة 1122 حين أخذها
الجورجيّين.
عقب زوال
مُلك الگوارَميّين نهاية القرن الثامن، برزت أسرة بَگرَتيوني ბაგრატიონი سنة 780 التي اعتبرت نفسها وريثة عرش
الگوارَميّين عن طريق مصاهرة الأمير گوارَم الثالث، وادّعت لنفسها واجباً مقدّساً
هو تحرير القوقاز من العرب والإسلام. ما دعاهم لحمل اسم ملوك جورجيا، أي أرض
المسيح.
آل
بَگرَتيوني ბაგრატიონი هم في الأصل أمراء ينتسبون إلى شخص فارسي اسمه بَگْرَد، كان
ضابطاً عسكرياً خدم في غرب ولاية آياستان الساسانية ثمّ تسلّم إمارة منطقة في
إبيريا القوقاز وتحوّل إلى المسيحية وصار من وقتها يسمّى الملك بَگرَت
الأوّل. ويُلفظ اسمه في الأرمينية پَكْرَد Բագրատوفي الجورجية بَگْرَد ბაგრატი وفي العربية بَقْرَاد وبَكْرَت وبَگْرَاد. والاسم عن الكلمة
الپهلوية الساسانية القديمة بَگْرَداته 𐬀𐬙𐬁𐬛𐬋𐬕𐬀𐬠 عن الأخمينية بگداته 𐏎𐎭𐎠𐎫 عن البابلية بگدادا (بغدادا) التي تعني نعمة الله. ذات اسم مدينة بغداد
المعاصرة.
عموماً،
تُنكر أسرة بَگرَتيوني أصولها الفارسية وتدّعي نسباً إلى الملك داوود ملك إسرائيل
في القرن السادس. وهم ليسوا من الأرمن ولو ادّعوا ذلك. وكان الأمير گوارَم الثالث
قد تزوج من بيت بَگرَتيوني ما منحهم لقباً ملكيّاً بقي سارياً من بعد زوال حكم
الگوارَميّين سنة 786.
من وسط
عقد 1080 تبعت مملكة جورجيا اسميّاً للإمبراطورية السلجوقية ودفعت ضريبة سنوية
لعاصمة الحكم السلجوقي في المنطقة؛ مدينة تفليسي. بعد قرابة قرن من هذه التبعية
اعتبر الملك البَگرَتيوني جورج الرابع أن لا خلاص لجورجيا من السلاجقة إلا بتطهير
المنطقة من العرب؛ مسلمين ومسيحيّين. وبالفعل، شرع بحملات عسكرية تستولي على المدن
العربية في القوقاز واحدة بعد الثانية. وفي شتاء 1120-1121 أبادت قوات جورج الرابع
عدداً من القرى المسلمة شرق وجنوب غرب القوقاز، ما دفع سلطان السلاجقة محمود
الثاني لإعلان الجهاد ضدّ جورجيا.
كان جورج
الرابع قد استغل حالة الفوضى على إثر الحرب الأهلية التي اشتعلت في السلطنة
السلجوقية حين ثار غياث الدين أبو الفتح مسعود على شقيقه محمود الثاني سن 1120.
وبإعلان محمود الثاني الجهاد ضدّ مملكة جورجيا، استفاد جورج الرابع من الإعلان
لينال دعماً عسكرياً من الإمبراطورية البيزنطية ومن الفرانكيّين على الطرف الآخر
من أوروپا. استعمل جورج الدعم الأوروپي ليتحرّك صيف 1121 ويضرب الحصار على تفليسي
التي استسلمت في العالم التالي، وانتهت هكذا إمارة تفليسي العربية بعد خمس قرون من
حياتها.
انتقل
جورج الرابع بعاصمته إلى تفليسي، وكانت آنذاك مدينة بأغلبية مسلمة، وبدأ حقبة
“تطهير” جورجيا. أكثر من خمسمئة من رجال الدين المسلمين قُتلوا تحت التعذيب علناً
في ساحات المدينة، وأُحرق الكثير من أحياء المدينة القديمة لدفع السكّان إلى
النفور والمغادرة. واستعمل الملك جورج سياسة تقليب الناس على بعضها، فصار يدعم
طائفة مسلمة ضد غيرها، ويتّهم طائفة بالمطالبة بالتضييق على طائفة أخرى، فينحاز له
بعض المسلمون حين يقوم بالضغط على بعضهم الآخر. ما نتج عنه الكثير من التضارب في
تدوينات المؤرّخين العرب الإبيريّين في سيرة حكم جورج الرابع لعاصمتهم.
عموماً،
نجحت سياسية جورج الرابع بتطهير جورجيا من عربها فعلاً تحت عهد البَگرَتيونيّين،
حتّى منحه الجورجيّون لقب جورج البنّاء აღმაშენებელი. وما حلّ القرن 13 إلّا وجورجيا خالية من اللّغة العربية
تماماً، وهزمها الاجتياح المغولي دون ذكر لأي مقاومة من سرايا عربية، أو أسماء
ضبّاط عرب.
أخيراً
يبق أن أذكر أنّ إمارة تفليسي تعاقب عليها حكم ثلاث أسر عربية، هي الشُعيبيّين،
والشيبانيّين، والجعفريّين.
1. بدأ حكم الشُعيبيّين سنة 786
بالأمير اسماعيل بن شُعيب، وانتهى سنة 853 بالأمير إسحق بن اسماعيل، الذي أعدمته
القوّات العبّاسية.
2.
بدأ حكم الشيبانيّين سنة 853 بالأمير محمّد الثاني بن
خليل، وانتهى سنة 880 بالأمير گَبُلوق بين إبراهيم.
3.
بدأ حكم الجعفريّين سنة 880 بالأمير جعفر الأول بن علي،
وانتهى سنة 1080 بالأمير فضلون الگنجي الذي كان قد عيّنة آلپ ارسلان السلجوقي،
والگنجي نسبة إلى مدينة گنجه غرب أذربايجان المعاصرة.
4.
عقب نهاية سلالة الجعفريّين تحوّلت إمارة تفليسي إلى
نظام حكم شبه جمهوري، تُدار فيه البلد دون أمير، إنّما بواسطة مجلس أعيان،
واستمرّت هكذا لمدّة 42 سنة إلى أن أزال البَگرَتيونيّين الإمارة.
جورجيا
هي حكاية نهاية ستّ قرون من حياة العرب في القوقاز، وقصّة تداخل إسلاميّ مسيحيّ في
داخل الهوية الوطنية الواحدة، التي عرفتها البلاد العربية ما قبل القرن 13. وقد
تكون حكاية إمارة تفليسي هي حكاية أندلس أخرى على الشرق، أو حكاية لأحد خيبات
العبّاسيّين وأخطائهم الاستراتيجية.
المراجع
1 Yarshater
(1968), p. xlii
2 Dodgeon,
Michael H.; Greatrex, Geoffrey; Lieu, Samuel N. C. (2002). The Roman Eastern Frontier and the
Persian Wars (Part I, 226–363 AD). Routledge.
3 Yarshater, Ehsan
(1968). The Cambridge History
of Iran, Vol. 3 : The Seleucid, Parthian, and Sasanian periods.
Cambridge University Press.
4 Rapp,
Stephen H. (2003), Studies In Medieval Georgian Historiography: Early
Texts And Eurasian Contexts, p. 344.
5 Suny, Ronald Grigor (1994), The
Making of the Georgian Nation: 2nd edition, p. 30. Indiana University
Press.