بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
لا توجد كلمة لاكتها أفواه الشعوب ، وإستهوتها قلوبهم , وانشغلت بها
عقولهم كهذه الكلمة تَنَادَوْا بها فى كل واد وناد ، ذكروها فى كل خطبة أو
مقال أو كتاب ، رفعوها شعاراً ، وجعلوها غاية يَرْخُص فى سبيلها كل غال
ونفيس! تنفق فى سبيلها الأموال ، وتهدر معها الأوقات ، وتزهق من أجلها الأرواح ،
وتسفك فى طلبها الدماء ، قامت تحت شعارها الثورات ، ووقعت تحت لوائها الإنقلابات
، وحيكت من أجلها المؤمرات ...إنها الحرية !
وقد درج إستعمالها بين عامة الناس وخاصتهم ، وبين كبيرهم وصغيرهم ، وبين رجالهم
ونسائهم ، يتردد صداها فى جميع جوانب الحياة وأوساطها ، السياسية والإجتماعية
والإقتصادية والعسكرية والتربوية بل وداخل الأسر فيما بين أفرادها .
ومن هنا تلوح لنا أهمية تناول هذا الموضوع لنقف منه على:
1 – معناه وخصائصه .
2- نشأته وتطوره .
3- موقف الإسلام منه .
4- بشائر ونفحات .
الحرية ضد العبودية ، والحر ضد العبد
الحرية هى الإباحة التى يتمكن الإنسان من الفعل المعبر عن إرادته فى أى
ميدان من ميادين الفعل ، وبأى لون من ألوان التعبير .
أو هى رفع اليد عن الشئ من كل وجه [1].
أو هى القدرة على التصرف بملء الإرادة والإختيار [2] .
ويتضح لنا من تلك التعريفات خصائص ثلاثة للحرية بهذا المعنى .
1 – إنها صادرة عن الإرادة الإنسانية ، إذن هى نسبية ، يفهمها كل
شخص وفق إرادته , "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا
فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ"[3]
2 – الحرية مطلقة لاقيود عليها ، فمحصلتها
أن يترك للإنسان تمام الإختيار ، قال تعالى: "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ
اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ"[4]
3- لا يترتب عليها أى قيود أو حدود ، فكل
شخص يسلك ما يريده ولا جزاء عليه ، قال تعالى : " وَنَفْسٍ وَمَا
سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " [5] .
وبالنظر فى القرآن الكريم ودواووين السنة ، فلن نجد
لهذا المفهوم بنصه أو معناه أصلاً ، سوى إسم الفاعل منه فى قوله تعالى : "
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ " [6] ،
بالإضافة إلى الأثر الذى ورد فى قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه لعمرو بن العاص
: " متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " , وقد ورد هذا
المفهوم فى المراجع الفقهية , ولكن يقصد بها تلك الحرية تعنى التحرر من الرق ,
فهى ضد العبودية , وهو غير موجود الآن .
إذن الحرية بهذه الخصائص لا تعرف القيود ولا الحدود , حرية بلا غاية ,
حرية من أجل الحرية , يصير مبتغيها كحيوان انطلق من عقاله يهيج فى كل الأودية
ولا يعرف له وجة , يهيم بلا هدى وبلا دراية , ويستحسن بنا أن نسميها باسمها
المناسب لهذا المفهوم فهى الفوضى التى لا تعرف حدوداً , ولكن لأنها فتنة فهى
تسمى بغير اسمها , كما استحل الناس الحرير والخمر والمعازف .
ولا جرم أن أصل هذه الكلمة وإستخدامها بصورتها الحديثة
يرجع إلى اليهود ، وإلى معتقدهم الباطل ، فهم يزعمون باطلاً أنهم شعب الله
المختار ، وأن الله تعالى قد خلق الأمميين وهم حيوانات ولكنهم فى صورة بشر لخدمة
اليهود ، وقد جاء فى التلمود : " إن الأمميين هم الحمير الذين خلقهم الله
ليركبهم شعب الله المختار ، وكلما نفق منهم حماراً ركبوا حماراً أخر" ، ومن
هنا فإنهم يستبيحون أعراض الأممين ودمائهم ، بل يعدون ذلك تقرباً إلى الرب .
وإذا كان الله تعالى قد قال : " وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ " [7] , فالخطاب موجه إلى يهود موسى فقط والمعاصرين له ، وأن
الله تعالى رد على إبراهيم عليه السلام عندما سأله بعض الفضل لذريته ، رد عليه
تعالى : " لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " [8] .
أما وصفهم لغير اليهود بالحمير ، ففى حقيقة الأمر هذا الوصف يخصهم هم ، "
رمتنى بدائها وإنسلت " ، فقد قال تعالى : " مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ
أَسْفَارًا " [9] .
وفى سبيل هذا المعتقد الفاسد ، كونوا جمعيات ومنظمات سرية عالمية تهدف إلى
إفساد الأمميين ، عن طريق دس السم فى العسل , وتسمية الأشياء بغير مسمياتها ،
وعلى رأس هذه المنظمات تأتى الصهيونية والماسونية [10].
وقد قرر الله تعالى هذه الحقيقة وأثبت هذا المعتقد وحذر منه ، قال تعالى :
" وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ " [11] ، وقد جاء الفعل بصيغة المضارع ليفيد الإستمرار
والديمومة ، وأكده بالنون للحذر والحيطة ، ولكن...
وقد إستخدمت هذه المنظمات مطلب الحرية ، كأداة لاغنى عنها لإفساد العالم ،
إنطلاقاً من فكر شيطاني محض ، فقد أدركوا تماماً مثلما أدرك الشيطان أن الإنسان
مجبول مفطور على الفضول ونيل ما منع منه ، فكل ممنوع منه فهو لديه مرغوب ، فقد
أكل آدم وحواء من الشجرة التى منعا منها .... ، حذو النعل بالنعل مثل ما فعل
الشيطان .
فقد تبنوا هذا المفهوم وقالوا فيه كما جاء فى بروتوكولاتهم ، : " إن
كلمة الحرية تضع كل مجتمع فى صراع مع كل سلطة حتى لو كانت سلطة الله أو الطبيعة
، وحينما نغدوا سادة فسوف نمحوا هذه الكلمة من المعجم " .
وقد روجوا لهذا المطلب بمعناه المطلق من الإباحة واللامسئولية ، للقضاء على
المعتقدات والأخلاق ، وفقد وضعوا فى المقابل مطلب الحرية .
وقد إستغلوا ما كانت عليه أوروبا فى عصورها الوسطى من جهل وظلام وقمع
وتسلط من قبل رجال الدين آنذاك ، الذين سلبوا من الشعب الأوروبى كل مقومات حريته
بل وإنسانيته بإسم التفويض الإلهى ، فكانت أوروبا تربة خصبة لتنفيذ هذا المخطط
الفاسد الخبيث آنذاك فعموا العداء والكره بين الشعب والكنيسة وروجوا لمظاهر
الطغيان الكنسى آنذاك .
وقد لعب الفكر دوراً بارزاً فى هذه المؤامرة على الدين
والأخلاق ، سياج المجتمعات فروجوا لنظرية دارون الإلحادية ، التى أعلن فيها أن
الإنسان حيوان مفطور ولا زيادة وقام صراع عنيف بين دارون وبين الكنيسة ، ووقفت
الجماهير فى صف الكنيسة فى البداية ولكن عادت فأيدت دارون بفعل اليهود ،
إنتقاماً من الكنيسة ، فإرتدت أوروبا على أثرها مادية ملحدة خالصة .
فإنسلخت أوروبا من النصرانية إلى المادية باحثة عن
المادة والشهوة ، اللتين حرمتها منها الكنيسة التى قمعت غرائز الإنسان فى
سبيل الروح ، فإنفلت الشعب من الشئ إلى نقيضه .
ولم يقنع اليهود بذلك ، والأخلاق لازالت قائمة ،
فسلطوا عالم النفس اليهودى الماسونى الخبيث فرويد صاحب التفسير الجنسى للسلوك ،
الذى رد كل نشاط يقوم به به الإنسان إلى الجنس ، وإن الكبت الجنسى وعدم إطلاقه
ينشئ عنه عقدة أوديب , ومن هذه العقدة تنشأ القيم والأخلاق ، وهى عملية ضارة
تنشأ عنها الإضطرابات النفسية والعصبية والعقد ، فضلاً عن تأخير الإنتاج .
فسرى التطور الحديث فى أوربا على أساس مادى جنسى بحت ،
ولم يقنعوا بذلك أيضاً ، فلازال الدين قائماً وإن كان معطلاً ، والأخلاق قائمة
وإن كانت مسفة ، ويفضى البعض شهواتهم الجنسية عن طريق الزواج .
فأخرجوا للعالم نظريات تدعوا للإلحاد وإنكار الدين
بشكل صريح لاإلتواء فيه, منهم نيتشة - لعنه الله - الذى قال مات الإله "
تعالى الله على ذلك علواً كبيراً " .
وجاء رُسُّو ومن بعده سارتر ، لينكروا وجود القيم
وضرورة إستبدالها ومن ثم محوها ، لانها مفيدة لحرية الإنسان ومعطلة لإنتاجه ،
ومكبلة لشهواته ونزواته ، وجاء دوركايم الذى زعم أن الزواج ليس من الفطرة ، وأن
الأصل فى البشرية كالبهائم .
وقد وقف اليهود من خلف هؤلاء وغيرهم ، يروجون لأفكارهم
، ويسفهون معارضيهم ، ففشت هذه الأفكار الخبيثة فى المجتمع الأوروبى سريان النار
فى الهشيم ، لانها كان مهيئاً لذلك .
هذا على الجانب الفكرى ، اما الجانب السياسى الذى
يسيطر على السلوك ، فقد عملوا على إقامة الثورات ضد الحكومات التى تتمسك بـ
" الدين والأخلاق " ، بإسم الحرية فقد خرجت أول هذه الثورات فى أوروبا
وهى الثورة الفرنسية على أيديهم وتحت شعارانهم .
فقد جاء فى بروتوكولاتهم :" وفى جميع جنبات الدنيا كان
من شأن كلمات " حرية – عدالة – مساواة " إن إجتذبت إلى صفوفنا على يد
دعاتنا وعملائنا المسخرين ولا يحصيهم عد ، من الذين رفعوا رايتنا بالهتاف ،
وكانت هذه الكلمات هى السوس الذى ينخر فى رفاهية الأمميين ، ويقتلع الأمن
والراحة من ربوعهم ، ويذهب بالهدؤ ، ويسلبهم روح التضامن " .
فجعلوا أوروبا كلها تنعق بالحرية ، الحرية من الدين
والأخلاق والتقاليد ، حرية مطلقة لا قيد لها ، وبعد أن أفسد اليهود أوروبا
توجهوا إلى العالم الإسلامى ، محاولين بث تلك الأفكار الخبيثة فى ربوعه ، فلم
يكتنفها إلا عدد يسيراً جداً من عملائهم وجهلائنا ، أما على الجانب السياسى فهم
يقولون : " كنا نحن أول من نادى فى جماهير الشعب بكلمات الحرية والعدالة
والمساواة وهى كلمات لم تزل تردد إلى اليوم ، يرددها من هم بالبغبغاوات أشبه ،
ينقضون على طعم الشرك فى كل جو وسماء ، فأفسدوا على العالم رفاهيته ،كما أفسدوا
على الفرد حريته الحقيقية وكانت من قبل فى حرو من عبث العلماء " .
فأطلقوا الثورات فى العالم الإسلامى على يد الماسونيين
، فإنساحت فى العالم الإسلامى فانتشرت بين ربوعه ، ضد عملائهم وأعوانهم بغية
تقسيم العالم الإسلامى وتمزيقه ، فرد الله كيدهم فى نحرهم ، وأبطل خبثهم , بهذه
الأمة بينها محفوظة بحفظ الله, " وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"[12].
فالله تعالى تعهد وتكفل بحفظ دينه ، فضلاً عن أن
الشعوب الإسلامية لاتعانى مما كانت تعانيه أوروبا من قهر وإستبداد دينى ، بل على
العكس تماماً من ذلك .
فالمسلمون ينفرون بحسهم الدينى والخلقى من الحرية أو
التحرر الغربى ، وينشدون الحرية التى كفلها لهم دينهم فى كل مناحى الحياة
وجوانبها ، بل وفى الدين نفسه قال الله تعالى : " لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ " [13] .
وإن كانت الحرية عند الغرب مطلب وحق من الحقوق ، فإنها فى الإسلام شرط من
شروط التكليف ، فإذا إنتفت الحرية عن الفعل وغلب عليه القمع ، تسقط عن
صاحبه المسئولية ، قال تعالى : " فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ " [14] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إبن
عباس رضى الله عنهما : " إن الله تجاوز لى عن أمتى الخطأ والنسيان ، وما
إستكرهوا عليه " [15] .
والحرية فى الإسلام تنطلق من عقيدة وفكر وسط لا إفراط فيه ولاتفريط ، فهى حرية
مسئولة " لاضر ولا ضرار " ، قال تعالى : " فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ " [16] , وهذه الحرية المسئولة لا يقوم بتحديدها إنسان ضعيف
تتنازعه الإهواء والميول يترصده شيطان , فالشعوب فى الإسلام ليست حقل تجارب تخضع
لتطورات الفكر الانسانى الذى يتسم بالتطور وعدم الثبات طبقاً للظروف والملابسات
, ومن ثم فإن الإسلام قد وضع إطاراً عاماً لحرية الانسان , إطاراً يتسم بالثبات
والمرونة فى الوقت ذاته , إطارا وضعه خالق الإنسان , إطاراً يضمن صلاح الفرد
والجماعة .
والحرية المسئولة هى تلك التى يعرف بها الإنسان أين يتجه وأين يسير ترفع الإنسان
وتعلى من قدره وتميزه من حياة البهيمية التى يريدها له المفسدون فى الأرض .
وتتصل الحرية المسئولة بجوهر طبيعة الإنسان
والغاية التى من أجلها خلقه الله , كخليفة له فى الأرض , خلقه فى أحسن تقويم
ونفخ فيه من روحه وأناطه بعمارة الأرض وزوده بالقدرات والإمكانات التى تؤهله
لإداء ذلك الدور العظيم , فبعث إليه الرسل وأنزل الكتب التى تبين له الحلال
والحرام والخير والشر وما يحصنه من غوائل الشيطان ونزوات النفس الأمارة , وكفل
له مطلق الحرية فى الإختيار بين هذا وذاك لإنه مسئول عن إختياره فى الأخرة أمام
الله وفى الدنيا أمام خليفة الله وظله فى الارض إذا تعدت حريته على الاخرين .
وفى النهاية نقول لأعداء البشرية ما قاله الله تعالى :
" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ
يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ " [17] ،
وقوله تعالى : " وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ " [18] .
-------------------------------
[1] [ التعاريف ] .
[2] [ لغة الفقهاء ] .
[3] [ الاحقاف : 11 ]
[4] [القصص : 50 ]
[5] [ سورة الشمس : 7-8-9-10 ] .
[6] [ سورة البقرة : 178 ] .
[7] [ سورة البقرة : 47 ] .
[8] [ سورة البقرة : 124 ] .
[9] [ سورة الجمعة : 5 ] .
[10] [ راجع كتب , محمد قطب , مذاهب فكرية معاصرة , واقعنا المعاصر , مفاهيم
ينبغى أن تحح , فقد استفاض المؤلف ]
[11] [ سورة المائدة : 64 ] .
[12] [ الأنفال : 30 ]
[13] [ سورة البقرة : 256 ] .
[14] [ سورة البقرة : 173 ] .
[15] [ حديث حسن رواه إبن ماجة والبيهقى وغيرهما ] .
[16] [ سورة الزلزلة : 7-8 ] .
[17] [ سورة الأنفال : 36 ] .
[18] [ سورة الأنفال : 30 ] .
|