2022/12/31 08:51

تاريخ استهلاك رديء.. ثقل السياسة والاقتصاد في تحولات التغذية الحديثة

تاريخ استهلاك رديء.. ثقل السياسة والاقتصاد في تحولات التغذية الحديثة

يربط كتاب بيتمان بين عوامل مختلفة تدمر التوازن البيئي، منها أزمات الغذاء، سرقة الأراضي، العنف العنصري، تراكم الثروة وتفاقم انعدام المساواة، معتبرا أن "ماذا يوجد للعشاء؟" من بين أكثر الأسئلة إثارة للقلق.

 

عادة ما تُروى قصة الجنس البشري على أنها قصة الابتكار التكنولوجي والتأثير الاقتصادي لرؤوس الأموال والقنابل الذرية وأسواق الأوراق المالية، ولكن وراء كل ذلك، هناك دافع أساسي أكثر أهمية للبشر، إنه الطعام.

يعرف الصحفي والمؤلف الأميركي مارك بيتمان بكتبه التي تتبع تطور الزراعة والاستهلاك من العصور البدائية إلى العصر الحديث، متناولا ثقافات الطعام المعاصرة التي يعتبر أنها لا تزال تتدهور بسرعة، ويهتم بتأثيرات رأسمالية السوق الحرة على قضايا الصحة والبيئة والزراعة.

يدرس بيتمان تاريخ الغذاء منذ القدم وحتى العصور الحديثة، ويقول إن مرحلة الصيد وجمع الثمار للإنسان البدائي تميزت بأنماط من التغذية تختلف باختلاف المكان، لكنها أنتجت "حقبة إنسانية أطول عمرا وصحة عامة أكثر مما كانت عليه في أي وقت آخر تقريبا قبل أو بعد ذلك" بحسب تقديره، ومثلت بوابة لمرحلة جديدة من الزراعة المستقرة مفادها "يمكن أن تبقى في مكان واحد وتزرع المحاصيل التي يمكنك تخزين فائضها للاستهلاك لاحقا".

ويعتبر أن البشر يعيشون الآن على كوكب "يكون الطعام فيه شيئا نربيه، وليس شيئا نصطاده أو نجمعه" ويقول إن الانتقال من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة وفر الغذاء لأعداد أكبر من السكان لكنه لم يكن بلا ثمن: لقد أصبحت الوجبات رتيبة وأقل غذائية وزادت ساعات العمل، ولم ينفرد بيتمان بتلك الحجة "الغريبة" فقد سبقه عالم الجغرافيا والجيوفيزياء الأميركي جاريد دايموند (ولد عام 1937) عندما بالغ واعتبر "الزراعة أكبر خطأ في تاريخ البشرية".

ويرى بيتمان أن نظام الوجبات السريعة الحديث قد خلف "أزمة صحية عامة تقوض ربما حياة نصف البشر" من خلال اعتمادها على الزراعة التي "تركز على تعظيم غلة المحاصيل الأكثر ربحية" معتبرا أن أضرارها (البيئية) فاقت التحضر المدني والتعدين واستخراج الوقود الأحفوري.

تاريخ الغذاء

في تقريره الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" (The New York Times) الأميركية، أشار الكاتب تيد جينوايز إلى كتاب بيتمان الصادر حديثا بعنوان "حيوان، نبات، وجبات سريعة: تاريخ الطعام من الاستدامة إلى الانتحار" وهو أطروحة شاملة عن علاقة الإنسانية بالطعام، تتطابق مع اللحظة التي نعيشها.

يقول الكتاب "لا يمكنك الحديث عن الزراعة دون الحديث عن البيئة، ولا يمكنك التحدث عن الرفق بالحيوان دون التحدث عن رفاهية العاملين في مجال الغذاء، ولا يمكنك التحدث عن العاملين في مجال الغذاء دون التحدث عن عدم المساواة في الدخل والعنصرية والهجرة" فكل قضية تمس الأخرى وتتداخل معها.

وأضاف الكاتب أن عرض بيتمان لنموذج الميكنة الحديثة بالمزرعة الأميركية ملحمي ومثير للاهتمام، إذ يشعر السكان بأنهم منغمسون في وعود وإمكانيات كل تلك التكنولوجيا الجديدة، ويقول بيتمان عن ذلك التحول "سواء كان مقصودا أم لا، فإن النتيجة المأساوية للدفع نحو الزراعة المعيارية (المميكنة) جعلت العلماء والباحثين لا يتحالفون مع المزارعين وإنما مع المصرفيين ومصنعي المعدات وبائعي البذور والمواد الكيميائية".

في القسم الأخير من الكتاب بعنوان "التغيير" كان لدى بيتمان بعد كل هذا التجوال الحق في أن ينتقد بشدة العيوب الواضحة في النظام الأميركي، ويقدم بدلا من ذلك تقييما عادلا للعديد من المحاولات الفاشلة لتصحيح الأخطاء.

كتب بيتمان "غالبا ما يكون تأثير البشر على البيئة غير مقصود وغير متوقع، لكن لا يزال يتعين علينا التعرف عليه والتصرف وفقا لذلك". في النهاية، يرى أن الحل الوحيد هو التركيز على الاستدامة.

ويلاحظ أن نظام الغذاء لم يتفكك. في الواقع، إنه يعمل بشكل مثالي تقريبا لصالح شركات البذور والمواد الكيميائية الكبيرة، كما أنه "يعمل بشكل جيد بما يكفي لحوالي ثلث سكان العالم، الذين يبدو لهم أن الطعام يؤكل ببساطة حسب الرغبة (وليس المتاح)". لكن هذا يعني أن التغيير سيقاومه أولئك الذين يتمتعون بأكبر قدر من النفوذ، وسيكون غير مريح لغالبية الأميركيين أيضا.

لذلك، سوف يتطلب الأمر بعض التحفيز في المراحل الأولى من حشد الجمهور، وبعد ذلك سوف يتطلب قدرا متساويا من العمل الجريء والثابت. وكما يوضح بيتمان، ليس لدينا رفاهية ارتكاب زلات عن حسن نية أو الاكتفاء بأنصاف الحلول، لقد حان وقت التغيير الكبير الآن.

أثمان الإنتاج الكثيف

يعتبر بيتمان أن القدرة على إنتاج كميات هائلة من عدد قليل من السلع مثل القمح والذرة لم تثر المزارعين ولكن عددا قليلا من الوسطاء مثل الشركات العملاقة والبنوك وكبار التجار الذين يقدمون القروض للمزارعين المضطرين إليها لشراء جرارات ورعاية مزارعهم، وفي المقابل خلف ذلك مشكلة كبيرة هي الكمية الهائلة من السعرات الحرارية التي تنتجها الزراعة التي تركز على سلع محددة.

ويوضح أن "النظام" الآن "يوفر تدفقا مستمرا وغير متقطع تقريبا من الطعام، بغض النظر عن الموسم". وفي هذه العملية ينتج الطعام غير المرغوب فيه صحيا أي الطعام المعالج الذي يهيمن الآن على النظام الغذائي الغربي، وبشكل متزايد، العديد من الأنظمة الغذائية الأخرى حول العالم، بحسب عرض للكتاب قدمته مجلة "ذا ناشين" (The Nation) الأميركية.

ولا تقتصر أضرار ذلك النظام على أجساد البشر فحسب، وإنما تضر المجتمعات، وفي كتابه يناقش بيتمان كيف تم تهميش صغار المزارعين السود، وخاصة في الجنوب الأميركي، بشكل منهجي من خلال السياسة الفدرالية، وكيف تم تدمير نظام مستقر إلى حد ما للزراعة بالمكسيك من خلال اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، التي ألغت حماية اقتصادية سمحت لمزارعي المكسيك بالاستمرار في وقت جرى إغراق البلاد بالحبوب الأميركية الرخيصة، والآن تزود الولايات المتحدة المكسيك بـ 42% من طعامها.

ويعتبر بيتمان ذلك الإغراق من الغذاء والوجبات السريعة الآتية من النظام الغذائي الغربي الحديث نوعا من "الهيمنة" يمكن مقارنتها مع حروب الأفيون بين الصين وبريطانيا في القرن 19.

ويربط الكتاب بين عوامل مختلفة تدمر التوازن البيئي: أزمات الغذاء وغياب العدالة العرقية، سرقة الأراضي، العنف العنصري، تراكم الثروة وتفاقم انعدام المساواة، معتبرا أن التساؤل "ماذا يوجد للعشاء؟" كثيرا ما كان من بين أبسط الأسئلة البشرية لكنه يبدو كذلك من بين أكثر الأسئلة إثارة للقلق والقابلية للانفجار.

المصدر الجزيرة الصحافة الأميركية مواقع إلكترونية نيويورك تايمز